مقهى الحاج داود (٢/٢)… مَعلَمٌ بيروتيّ عريق وعتيق نُقش فيه جزءٌ من تاريخ المدينة

زياد سامي عيتاني

“مقهى الحاج داود” كان يفتح قلبه وذراعيه لزبائنه من الساعة الخامسة فجراً حتى السادسة مساءً، ولم يكن يفتح ليلاً، وذلك لتجنّب أجواء الليل الصاخبة الساهرة، التي تتسبّب بها النوادي الليلية.

فكان الزبائن يقصدون “مقهى الحاج داود” باكراً لتدخين النرجيلة، أو لتناول “الترويقة” قبل الإنصراف إلى عملهم، بحيث كان مشهوداً للمقهى صحن الفول عنده، الذي لا يضاهيه أي “فوّال”، فكانت له طريقة خاصة في طهوه، اذ يُنقع بعد غسله، ثمّ يُترك طوال الليل في “القدرة” يغلي على نار الحطب، حتى يصبح فتصبح حباته شبه مهروسة. وعند “تتبيله”، كان يقدم مغمّساً بالزيت، وإلى جانبه شرائح البندورة البلدية والبصل الأخضر والفجل والنعناع والزيتون، مع الخبز الساخن، وكان ثمن كلّ ذلك 75 قرشاً.

أما عند الظهيرة، فيتحوّل المقهى إلى مطعم، خصوصاً للعائلات أيام العطل، وبقية الأيام، كان مقصداً للسوريين الذين يزورون لبنان، بحيث اشتُهر بتقديم السمك والسردين مع مقبلاتهما، بما ينسجم مع الجو البحري للمكان.

وفترة بعد الظهر، تُعتبر الوقت المفضل للقاءات وجلسات الأصحاب والأصدقاء، للتحادث والتسلية والترفيه، حيث كان يكثر خلالها لعب “طاولة الزهر” بكلّ ما تنطوي عليه من حماسة وتحدٍ و”تزريك” وشماتة، (ضمن حدود الأدب ورفعة الأخلاق). وكم من خبريات تُروى عن المرات العديدة التي كان يقع فيها “الزهر” وأحجار طاولة اللعب في البحر، من جراء إنفعالات المغلوب الذي كان يحركها بشيء من الغضب والتوتر!.

تمكّن “مقهى الحاج داود” من أن يُصنّف من المقاهي المهمّة والشهيرة في البلاد العربية، ليس كمكان للتسلية والترفيه، إنما للمكانة التي وصل إليها على صعيد إستقطاب كبار الأدباء والشعراء والصحافيين، الذين يرتادونه وينسجون من خيالاته الوارفة نتاجهم وإبداعهم الفكري.

فالمقهى، كان قِبلة للكتّاب والمبدعين من شتّى أنحاء الدول العربية، بين ردهاته يكتسب المبدع منهم فرصاً ثمينة تجمعه بشخصيات يصنعها، وأحلام يحاكيها وإيحاءات يتفاعل معها.

فيه تمت اللقاءات الأدبية، وفيه نَظَم الشعراء شعرهم، وعلى كراسيه جلس مفكرون، سياسيون، تداولوا، وتناقشوا، وتحاوروا، وخططوا، وقرّروا، وكتبوا، وأبدعوا…

وعن تلك الأجواء، نورد مقتطفات مما كتبه الإعلامي المصري مودي الحكيم:

“من زبائن (مقهى الحاج داود) الدائمين، أمين نخلة، الشاعر والكاتب والنائب السابق، وكان يلتقيه الرسام التشكيلي مصطفى فروخ، ويدور حديث الأدب والشعر والرسم، ويدخل الشاعر ونقيب المحامين ميشال عقل، حلبة الكلام…

كان سامي الصلح، (أو البابا سامي)، كما يسميه اللبنانيون تحبّباً، عندما ترك القضاء إلى السياسة وإلى رئاسة الحكومة مرات، يداوم على الحضور، ومعه يبدأ كلام السياسة، ويحتّد مع جبران تويني (والد غسان تويني)، أيام جريدة (الأحرار) وبعدها (النهار).

ومن زوار المقهى الدائمين النائب والوزير السوري عبد السلام العجيلي، الذي كان يأنس بلقاء السياسيين اللبنانيين، ويستلذّ بأحاديث الأدب والشعر والفنون.

وقد يكون الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، الشخصية المميّزة بين رواد المقهى، الذي كان مقره الدائم، منذ ترك السكنى في دمشق. ومن عاداته الغريبة، أنه كان يجلس على كرسيٍّ منحني الظهر، ويمدّ رجليه أو يتكئ على ثان، ويضع كوفيته وعقاله على ثالث، ومجموعة الجرائد على كرسيّ رابع، وبين الفينة والأخرى، تسمع صرير قلمه على طرف جريدة، أو علبة سجائر، يسجّل خاطرة باله، أو مطلع قصيدة.

وكان النجفي يلتقي في المقهى أصدقاءه الأدباء والشعراء، منهم ميخائيل نعيمة، ومارون عبود، ورشيد سليم الخوري…”.

على الرغم من النجاح الباهر الذي عرفه “مقهى الحاج داود”، والشهرة الواسعة التي إكتسبها طوال سنين عمله، فقد بقي محافظاً على “هندسته” التي بُني بها بالطريقة التقليدية القديمة، من دون أن يواكب موجة التجديد العارمة، التي اجتاحت “الزيتونة”، ولم يهرب من شيخوخته المزمنة، التي لم تتمكّن من التغلّب عليه وجعله متهالكاً، وكأنّ قدراً شاء أن يُبقي المقهى على المعالم نفسها التي بُني عليها.

فمكانه وشاكلته تحوّلا إلى أشبه بهويّة مُعرِّفة عنه، ودالّة على خصوصيته، مما جعل من فضائه الخشبي فسحة ماتعة، حُفظت في ذاكرة الأيام بحيوية دائمة، ليتنفّس رواده وزبائنُه المخلصون تاريخ المدينة، ومشاهدته من خلال المقهى المترامي بين أمواج بحر بيروت، وليروي للأجيال تاريخها العريق…

إقرأ أيضاً: مقهى الحاج داود (٢/١)… مَعلَمٌ بيروتيّ عريق وعتيق نُقش فيه جزءٌ من تاريخ المدينة

شارك المقال