مع مَن ترسيم الحدود: إيران أم الدولة اللبنانية؟

عبدالوهاب بدرخان

يُبذل جهد كبير لإشاعة أجواء التفاؤل بقرب الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فيما يبقى “شيطان التفاصيل” ناشطاً، وهو يُعزى في الأساس الى صعوبة بديهية في عقد اتفاق بين دولتين “في حال حرب” وليستا في صدد عقد صلح بينهما، ولولا إلحاح المصلحة لدى كلٍّ منهما لما كان التفاوض أصلاً ولما استطاعتا تذليل العقبات. غير أن ما يمكن حلّه تقنياً استناداً الى المعطيات العلمية والأحكام القانون-دولية يصعب حلّه سياسياً باعتبار أن اتفاق المصالح يجب ألّا يعني في أي حال، بالنسبة الى لبنان، أن العلاقة بين الطرفين اقتربت أو تقترب من “التطبيع”. لذلك تبدو الشروط اللبنانية أحياناً غير قابلة للصياغة في وثيقة يُفترض أن تصبح بمثابة قانون يحكم الوضع الحدودي بين الدولتين، فكما أن الحدود البرّية المرسّمة (على الرغم من نقاط خلاف لم تُحسم بعد) متداخلة ولم تنتج استقراراً (بفعل استمرار الصراع وتحوّله الى إسرائيلي – إيراني)، كذلك الحدود البحرية وحقول الغاز تحتها ستبقى، بعد ترسيمها، متداخلة وموضع تجاذب على الرغم من أنها بحاجة الى استقرار ثابت ودائم لتتحقّق الغاية الاقتصادية من الترسيم.

أرجأت إسرائيل (والولايات المتحدة) استخراج الغاز من حقل “كاريش” الجاهز للاستغلال، بضغط مشترك على الشركة اليونانية، ظاهرياً بغية تسهيل التفاوض مع لبنان، وواقعياً لنزع فتيل أي توتّر وتصعيد وربما مواجهة تريدها إيران و”حزبها”، بحسب الظروف وربطاً بالمفاوضات النووية في فيينا. لكن تعثّر هذه المفاوضات على الرغم من اقترابها من التوقيع على اتفاق لإحياء اتفاق 2015 قد يفضي الى فرض تأجيل ترسيم الحدود البحرية، على الرغم من تضييق فجوات الخلاف في الاتفاق وضرورة بتّه في الأسابيع القليلة الفاصلة عن استحقاقَين مهمّين: انتخاب رئيس جديد في لبنان، وانتخابات تشريعية في إسرائيل… فهل تميل الدفّة الى الإسراع في الاتفاق أم الى التأجيل؟ إذا كان الاحتكام الى المصلحة فحسب فإن الاتفاق يمكن أن ينجز، أما إذا تدخّلت الحسابات السياسية والجيو-سياسية فإنه سيتأخّر. الإدارة الأميركية أعطت الملف “أهمية قصوى” معطوفة على حاجة أوروبا الى الطاقة. رئيس الحكومة الإسرائيلية يرى في الاتفاق واقتراب استغلال الثروة الغازية تزكية له في الانتخابات. والرئيس اللبناني الحالي وفريقه يرغبان في أن ينتهي عهده بإنجاز يفتح نافذة أمل مستقبلية لا بد أن تنعكس على خطط التعافي، على افتراض أنهما يضعانها في أولوياتهما.

لكن، هل أن هذه المصالح المتقاطعة تلتقي أو تنسجم مع التفكير الإيراني؟ نعم، فقط في حال التوصل الى احياء الاتفاق النووي وإلى توافقات على هامشه. عدا ذلك لا شيء مؤكّداً. ومع ابتعاد احتمال النجاح في فيينا ليس من شأن إيران أن تسهّل دخول إسرائيل سوق الطاقة وتزويد أوروبا ما دامت العقوبات تحول دون عودتها بقوّة الى هذه السوق، على افتراض أنها تريد العودة بصورة طبيعية ولا تخطط مع روسيا للتلاعب بالسوق والأسعار. هكذا يبدو الملف أشدّ تعقيداً، ولا شك أن إيران تقف وراء التصعيد بالمسيّرات الذي نفّذه “حزبها” للضغط على مفاوضات الترسيم. لكنها تأخذ في اعتبارها أمرين: الأول، أن الأداء الأميركي – الإسرائيلي ساهم أخيراً في تعطيل أي تصعيد. والثاني، أن في مصلحتها أن لا يظهر “الحزب” كجهة معطِّلة لأي اتفاق بل “مصوّبة” للتفاوض، وبالتالي لكي يمثّل “انتصاراً” لـ “الحزب”. لكن يُفهم من مضامين الزيارة الأخيرة للوسيط الأميركي أن التصعيد نفسه أعاد الهواجس الأمنية لإسرائيل ودفعها الى التشدّد في تبديدها، إذ لا يمكنها استغلال ثروتها الغازية وسط تهديدات مستمرّة، ولا تستطيع الانتظار لسنوات كي يبلغ لبنان مرحلة استخراج الغاز واستغلاله.

ثم وُضعت شركة “توتال” على الخط هذه المرّة كتعبيرٍ عن “الالتزام الفرنسي الضامن” عدم معاودة الشركة الانسحاب من أعمال التنقيب وما يليها، وكأن انسحابها سابقاً كان قراراً خاصاً. عموماً قد يوحي وجودها ببعض الثقة للجانب اللبناني، وإلى حدٍّ ما الإيراني أيضاً ما دام خط باريس – طهران مفتوحاً لعقد تفاهمات شفهية تُلزم أحياناً ولا تُلزم معظم الأحيان. لكن العقل السياسي في طهران لم يغادر نهج التعطيل في كل مكان ما لم تحقق إيران مصلحتها أولاً، وما لم تضمن إمكان الاستحواذ على مصالح في مختلف بلدان نفوذها. في سوريا تتحدث طهران أكثر مما تفعل دمشق عن نهب “أميركي” للنفط، وفي العراق تفرض نوعاً من الخوّة على حكومة بغداد، وفي اليمن لن تتيح أي حل سياسي ما لم تؤمّن لحوثييها حصّةً على حقول النفط في الشرق.

بالإضافة الى هذه الاعتبارات، لا تريد إيران أي تغيير جوهري في خريطة تحريك الميليشيات التابعة لها، سواء لأنها منخرطة في التفاوض النووي أو لأنها تتحوّط من احتمالات ضرب اسرائيل لمنشآتها أو نشوب مواجهة اقليمية. الأكيد في هذا السياق أنها لا ترى في الترسيم البحري أمراً يخصّ استراتيجيتها فحسب، بل تشتمّ فيه نوعاً من “هدية” لن تقدّمها الى إسرائيل مجاناً أو بسهولة. ففي أفضل الأحوال لن تسهّل إيران ترسيماً وفقاً لاتفاق متكامل ومربك لها، أي أنها ستسعى الى إبقاء ثغرات فيه كي تتمكّن لاحقاً من استغلالها.

في اللحظة الراهنة يمكن القول إن اتفاق الترسيم ممكن قبل الانتخابات الإسرائيلية (في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر)، وقبل انتخاب رئيس لبناني جديد (يُفترض أن يتم قبل نهاية تشرين الأول/ أكتوبر)، شرط أن يواصل “حزب إيران” انكفاءه، وأن لا يكرّر تهديدات لا داعي لها، وإلّا فإنه سيُحمّل مسؤولية التعطيل. أما في حال التأجيل فإن مصير الملف سيرتبط بمخرجات الاستحقاقَين المذكورين سابقاً: قد تكون نتيجة الاقتراع عقيمةً في إسرائيل، كما اعتادت في الأعوام الأخيرة، فيتأخّر أو يتعذّر تشكيل تحالف من الفائزين لتأليف حكومة جديدة، وربما تأتي حكومة غير مستقرّة، لكن المسار معروف ومنضبط، وإن تطلّب الاحتكام الى اقتراع آخر. أما في لبنان فلا أحد يملك تصوّراً واضحاً، بمن في ذلك الحزب “الحاكم” – “حزب إيران/ حزب الله”، لما سيحدث مع انتهاء ولاية الرئيس الحالي، ولا مَن سيأتي بعده، لأن المسار معروف نظرياً، ودستورياً، غير أن التطبيق شأن آخر، وبناء على السوابق لم يعد مستبعداً أن يدخل البلد في مرحلة شغور رئاسي، فقط لأن الخيارات المتاحة لا تلبّي أجندة “حزب إيران”. موضوعياً، قد لا يبدو الاستحقاقان مرتبطين، لكنهما يؤدّيان الى المآل نفسه بالنسبة الى لبنان وأزمته. وبديهي أن الإسرائيليين والأميركيين يريدون أن يعرفوا مع مَن سيُجرى الترسيم: مع إيران أم مع الدولة اللبنانية؟

شارك المقال