16 أيلول 1982… بيروت مهد إنطلاق المقاومة قبل تجريدها من وطنيتها!

زياد سامي عيتاني

قبل ١٦ أيلول ١٩٨٢؛ ولأيام معدودة، حلَّ ليل طويل على بيروت، كأنها شهور، لا بل سنون مديدة. سواد حالك خيّم على كل الأرجاء، مثقلاً بالرعب والذعر والهلع…

في تلك الأيام، لم تكن الشمس تشرق كعادتها، غابت عن سماء بيروت الجريحة، حجبتها الغيوم الملبدة، إنطفأت النجوم الساطعة، سرق القمر من أحلامنا، هاجرت الطيور إلى البعيد.

وحدها أخبار المجازر المتأخرة تملأ الأرجاء! تصلنا ليس عبر أثير الاذاعات، بل عبر سحب غبار القصف والدمار، وأعمدة دخان الحرائق والنيران، ورائحة الموت التي تقطع الأنفاس، وبقع الدماء على الجدران، وأشلاء الجثث الممزقة.

مدينتي؛ لم تعد تعج بالحياة، شوارع خالية إلا من سيارات الإسعاف والإطفاء، عيون شاخصة نحو المجهول، ملاجئ لم تعد آمنة، أمهات ثكلى، أطفال فقدوا طفولتهم وألعابهم، شباب ضاعت أحلامهم، آباء حائرون قلقون من الآتي.

قبل يوم ١٦ أيلول المجيد، وبفعل الخديعة الكبرى، حينما خرجت القوات المتعددة الجنسيات، عقب إتفاق مشؤوم ومزعوم للسلام المذل، وبعد إزالة كل الدشم والمتاريس والعوائق والألغام من شتى المحاور، شعرت المدينة أنها تعرّت، وأن ظهرها بات مكشوفاً، وأنها تقترب من أن تتحول إلى ساحات للموت والفجيعة والمجازر، عندما تمكنت جحافل العدو الصهيوني من دخول بيروت وتدنيس أرضها المباركة لأيام محدودة… وذلك بعد صمود ملحمي أسطوري لسيدة العواصم العربية بيروت، على مدى ما يزيد عن ثلاثة أشهر، على الرغم من القصف الجوي والبري والبحري بمختلف أنواع قنابل وصواريخ الحقد والموت والإجرام القاتلة والحارقة والمدمرة، وعلى الرغم من كل المحاولات الفاشلة لدخول بيروت، تكسرت وأحبطت كلها على بواباتها وثغورها ومعابرها، حيث ظلّت شامخة على الرغم من جراحها، شاهقة على الرغم من أن الدم غطى جدرانها وأرصفتها، باسقة مرفوعة الرأس على الرغم من النيران التي إلتهمت كل شيء، زاهية على الرغم من الحرائق، عصية متمردة ما عرفت الخنوع على الرغم من ذلك التخلي والإعراض عنها.

لكنها، على الرغم من كل هذه الأهوال، فإنها ما عرفت الهوان ولا الخنوع ولا المهانة ولا الإنكسار… بل، تمردت وعصت وكابرت وقاومت وصمدت ونازلت.

نهضت من تحت الركام، وحملت جرحها النازف، ومضت إلى المواجهة المفتوحة، المواجهة غير المتكافئة، محطمة كل الأساطير الواهية، ومسقطة كل القصص الكاذبة.

في ١٦ أيلول، خرج شبابها وفتيانها بسواعدهم وأظافرهم وصدورهم العارية، وهرعوا من مناطقهم وحاراتهم ومنازلهم في كل إتجاهات مدينتهم المفجوعة، هذه المرة كانت متاريسهم هي أجسادهم، وخنادقهم أرصفة المدينة وزوايا الجدران، وراحوا يلاحقون الغزاة ويطاردونهم حيثما كانوا، وبدمائهم الزكية محوا العار والخزي والازدراء الذي لحق بالمدينة، وأبوا إلا أن تكون بيروتهم مدينة للعزة والكرامة والإباء.

جعلوا منها ثغوراً للرباط… فكانت الملحمة البطولية الأسطورية، التي هزمت أكذوبة “الجيش الذي لا يقهر”.

ما هي إلا أيام لم تتعدَّ العشرة، حتى أزهرت المدينة عنفواناً وعزة وكرامة، سيبقى التاريخ شاهداً على مجدها وسؤددها، عندما فرضت على العدو الغاشم الفرار منكسراً، مهزوماً، مذعوراً، مطأطئاً رأسه، وجارراً أذيال الخيبة، منادياً بمكبرات الصوت: “يا أبناء وأهالي بيروت لا تطلقوا النار، فنحن منسحبون(!)…”.

إنها بيروت سيدة العواصم، وتاج المدن، ولؤلؤة المتوسط…

بيروت أميرة الصمود، وملحمة الخلود…

بيروت، مهد إنطلاقة المقاومة الوطنية بكل صفاء ونقاء، التي جمعت كل المناضلين الشرفاء كأبناء لها، المتدفقين من كل الجهات لطرد الغزاة، فضمتهم إلى صدرها الدافئ كأبناء لها، من دون تمييز ولا تفرقة.

بيروت، التي بعد تحريرها، قادت معركة تحرير كل الوطن من رجس الصهاينة، فعمّمت ظاهرة مقاومتها بنبلها وبعدها الوطني التحريري، لتتحول إلى مشروع نضالي وطني شامل، لتحرير الوطن، كل الوطن… قبل أن يسرق ويزور، ويجرد من وطنيته!.

شارك المقال