جردة حساب!

اكرم البني
اكرم البني

هو أمر مفهوم ألا يوجد لدى من لا يزالون يتمثلون فكر تنظيم “القاعدة” ويسيرون على خطاه، الدافع لإجراء جردة حساب لحصيلة أعمالهم بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول عام 2001 وما تلاها من أعمال إرهابية، وهو أمر مفسر ألا يقتنع أصحاب فكرة “أرهبوا أعداءكم” بعد سنوات طويلة من التجريب، بأن نهجهم كان بلا فائدة وبلا أفق، وأن جل ما أفضى إليه هو المزيد من البؤس والتردي والإساءة ليس الى حالنا الراهنة وحسب، وإنما أيضاً الى الحقوق البسيطة في الحرية والعدالة والكرامة التي تتطلع شعوبنا إليها، فما ثبت عملياً أن هؤلاء لا ينظرون الى الجدوى والنتائج النهائية لما يقومون به وتأثيرها على أوضاع مجتمعاتهم، بقدر ما يبحثون عن انسجامها مع هوسهم العنفي الأيديولوجي، ودرجة الأذى والخوف الذي تحدثه لدى من يعتبرونهم أعداءهم أو خصومهم.

لكن ما هو غير مفهوم ولا مفسر ألا تشكل هذه الظاهرة لدى حملة الهم الديموقراطي العربي حافزاً للقيام بجردة حساب أو للوقوف نقدياً منها وصولاً الى تقويم الدور الذي لعبه الإرهاب الاسلاموي بجذريه السني والشيعي، في مواجهة مشاريع التغيير الديموقراطي ونصرة حقوق الانسان، وما خلفه من نتائج وآثار سلبية، سياسياً وتنموياً وإنسانياً، على المجتمعات العربية والإسلامية.

ومثلما تبدو اليوم، الحرب في أوكرانيا كأنها توجه ضربة الى النظم الديموقراطية في أوروبا مستبيحة حقوق الآخر بالقوة والعنف، لم يعد يخفى على أحد، أن تفجيرات أيلول وما تلاها من ارتكابات إرهابية، أضرت في المحصلة النهائية، بمسيرة الديموقراطية وحقوق الإنسان، التي بدأت تشهد انحساراً ملموساً بعد زخم لم يعرف له مثيل، خلال السنوات التي تلت سقوط المنظومة الاشتراكية، كان أوضح تجلياته الحضور القوي للفكر الليبرالي ومبادئ الحرية في تقويم الأنظمة السياسية ومعايرة مدى صلاحيتها، ولا تغير هذه الحقيقة بل تؤكدها النتائج الهزيلة لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي روجت له واشنطن وقتئذٍ لدعم الديموقراطية.

أن نعترف بهذا الضرر يعني أن نقدر حق تقدير ماهية التحول الذي شهده العالم مع تقدم الحلول الأمنية والعسكرية إلى الواجهة وتراجع أشكال الصراع السلمي، السياسي والاقتصادي، وأن نقدر تالياً أية حقنة من النشاط والفاعلية أعطيت تحت عنوان مكافحة الإرهاب، لتحرير الاجراءات الأمنية عالمياً ودفع دور الدولة العسكري التدخلي الى الأمام، ليغدو كل شيء مباحاً ضد الآخر بما في ذلك اجتراح الحروب.

هل نتجرأ ونسأل إذا كان ثمة مصير مختلف للعراق، حتى بعد الاجتياح الأميركي، لو لم تتبلور تيارات دينية متطرفة وارهابية تحكمت بالعملية السياسية وفرضت شروطها في إعادة بناء مؤسسات الدولة؟ وألا يتوجب أن نتوقف عند الدور الذي لعبته الحكومة الاسلاموية في طهران ليس بسعيها الى استثمار الحرب على العراق للسيطرة عليه وتفكيكه ونهب ثرواته وحسب، وإنما أيضاً بتغطيتها ودعمها الخفي لتنظيم “القاعدة”، والذي دلت عليه مؤخراً مؤشرات ترجح تواطؤها في تنفيذ بعض العمليات الإرهابية الاسلاموية للضغط على الغرب، ونضيف ما خلفته ممارساتها في مناطق انتشار ميليشياتها، من مناخات تعادي الديموقراطية وحقوق الانسان وتتوسل القوة والمكاسرة لمد نفوذها بالقمع والإرهاب في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها، وفي السياق نفسه يمكن النظر إلى حكومة حزب “العدالة والتنمية” في تركيا وسعيها الى توظيف التاريخ الاسلاموي العثماني في تسويغ حروبها في سوريا وغيرها، وتشجيع أساليب الاستئثار والغلبة لدى جماعات الاسلام السياسي التي تصدرت مشهد الربيع العربي.

ثم ماذا عن المناخ السياسي في غزة، وأي مشهد للحالة الفلسطينية لو لم تجعل حركة “حماس” الاسلاموية، السلطة ملكية وامتيازاً وتلجأ إلى العنف والقمع العاريين لمواجهة معارضيها؟ هل كانت العنجهية الصهيونية أقدر لو لم يتكرس ذلك الانقسام الفلسطيني؟ وهل سأل أحدنا نفسه عن مصير مشاريع التغيير السياسي والتنمية في لبنان مع النفوذ الذي يحوزه “حزب الله” وما مارسه من تسلط عبر الارهاب والقمع والاغتيالات بدءاً من مهدي عامل وحسين مروة حتى لقمان سليم؟

وعن سوريا، ومع التأكيد على أن المسؤولية الأساس في ما وصلنا اليه من قتل وتفكيك وخراب، تقع على عاتق النظام وحلفائه، هل نتجرأ على القول، إن مسار ثورة السوريين ربما كان مختلفاً لو لم تركب موجته الجماعات الاسلاموية بمشاربها واتجاهاتها المتعددة؟ ألا يصح أن ننظر من هذه القناة الى ما عرف بأسلمة الثورة وتسعير التأجيج والتعبئة المذهبيين… إلى قرار حمل السلاح والعسكرة… إلى دفع الأقليات الدينية والأثنية إلى حضن النظام دفعاً… إلى تسويغ مختلف وسائل الفتك والتنكيل السلطوية أمام عالم صامت يهمه مواجهة الإرهاب الاسلاموي أولاً، ويهمه تالياً كاشتراط غربي عموماً وأميركي تحديداً، وجود بديل وطني مقنع يناهض الإرهاب لفتح أبواب الدعم أمام مشروع التغيير السوري، وأوضح مثال انعكاس دفاع المعارضة السورية عن “جبهة النصرة” وتجنب اتخاذ موقف واضح منها، بصفتها منظمة إرهابية، في تراجع ملموس ومباشر للدعمين الأميركي والغربي لها؟

واستدراكاً، لا يمكن فهم أسباب تنامي الشعبوية والعنصرية في الغرب إذا أغفلنا همجية الإرهاب الاسلاموي، ولم نتمعن في ما خلفته عمليات التفجير في بعض محطات القطار أو الذبح بالسكين أو الدهس بالسيارات من ردود أفعال في التعاطي مع حقوق الآخر، والأهم في التأثير على الناخب الغربي في اختيار حكامه ودفعه نحو انتخاب المتشددين في مواجهة المهاجرين العرب والمسلمين.

والحال، بعد أكثر من عقدين من الزمن على أحداث الحادي عشر من أيلول وما تلاها، ومن دون إغفال أهمية الدور المزمن لأنظمة الاستبداد والقهر، والتأثير السلبي العميق لأزمات المجتمعات الليبرالية وازدواجية معاييرها، ثم ضعف الأمم المتحدة وهشاشة دورها في تمكين شرعتها الدولية، يخطئ من يقول إن الإرهاب الاسلاموي لم يكن فاعلاً ومؤثراً في تخريب حياتنا الإنسانية والسياسية وعلاقتنا مع أنفسنا ومع الآخر، ويخطئ من يعتقد بأن مناهجه وممارساته لم ترتد ضدنا، وتجعل مجتمعاتنا، وهي في أضعف أوقاتها، مركزاً للضغوط المتنوعة ولأفعال الحرب والقوة، ما يضع الكثير من اللوم في ما وصلنا إليه على سلبيتنا وغياب كلمة حق مسؤولة وجريئة ضد هذه التيارات الإسلاموية… على تساهلنا في فضح تلك العقلية الايديولوجية التي تستهتر بالانسان وحقوقه… على تقصيرنا في تصويب علاقة الديني بالدنيوي، والتأسيس لرؤية جريئة تحدث قطيعة نهائية بين الدين والسياسة.

شارك المقال