القضاء والأمن: الانهيار بوجهه البشع!

رامي الريّس

التآكل المستمر في سعر صرف العملة الوطنيّة أدّى وسيؤدي إلى المزيد من إذلال اللبنانيين في لقمة عيشهم. عمليّاً، جميع العاملين في القطاع العام بأسلاكه القضائيّة والعسكريّة والأمنيّة والإداريّة أصبحوا يلامسون خط الفقر إن لم يكن قد تجاوزوه هبوطاً نحو الأعماق السحيقة.

صحيحٌ أن ثمّة “بحبوحة” سابقة عاشتها بعض الأسلاك عقب الزيادة العشوائيّة وغير المدروسة (ولو كانت محقة في بعض جوانبها) لسلسلة الرتب والرواتب التي لم تكن أرقامها دقيقة أو كلفتها تتماشى مع الواقع المالي للدولة؛ ولكن هذا لا يبرر حالة الفقر، إن لم يكن العوز، التي صارت تعاني منها تلك الشريحة الإجتماعيّة الكبيرة.

الوضع في مؤسسات القطاع الخاص ليس أفضل حالاً، فهناك أيضاً لا رقيب ولا حسيب ولو أن بعض الشركات، خصوصاً تلك التي تتعامل مع الأسواق الخارجيّة وتحصّل جزءاً من مداخيلها بالعملات الأجنبيّة، تبادر إلى تحسين موضعي لظروف العاملين فيها. ولكن ليس هناك ما يمكن تعميمه في هذا المجال من بعض التجارب المتفرقة والمبعثرة والتي تستند بغالبيتها إلى المبادرات الفرديّة لأصحاب الشركات وليس إلى قوانين أو أنظمة نافذة يتوجب عليها تطبيقها.

الهدف الأساس اليوم ليس العودة إلى “البحبوحة” وقد أصبحت بعيدة المنال، بل توفير الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم واللائق والكرامة الانسانيّة. وإذا كان الانهيار البشع يطال كل قطاعات المجتمع ويضعها أمام تحديات وجوديّة كبرى، فتداعياته الخطيرة على المسار الوطني العام تأخذ منعطفات كارثيّة في الأمن والقضاء تحديداً.

الأمن هيبة قبل كل شيء، قبل الأسلحة والعتاد والذخيرة، وقبل العديد والبزات المرقطة (والكثير منها قد بهت لونها مع مرور الزمن). أساساً، لعنة ضعف الدولة تلاحق هذا البلد الصغير منذ نشأته الملتبسة سنة ١٩٢٠ وإستقلاله المنقوص سنة ١٩٤٣. دائماً، كانت هناك قوى سياسيّة (وغير سياسيّة) أقوى من الدولة. كيف يمكن أن تكون هناك دولة “بالتراضي” وتبقى تسميتها دولة؟ التناقض قائم في تعريف المفهوم بحد ذاته.

قبل الحديث عن مفاعيل الانهيار الاجتماعي والمالي على قطاع الأمن، هل هناك لبناني واحد “يقبل” أن يُسطّر الشرطي بحقه محضر ضبط في حال إرتكب مخالفة مروريّة من دون أن يستل هاتفه الخلوي ويتصل بضابط يطلب من الشرطي التراجع عن “عملته السوداء”؟ يا لها من معنويات يملكها رجل الأمن، فكم بالحري إذا ترافق ذلك مع تراجع مدخوله المالي الوحيد عشرات المرات إلى الخلف؟

أما القضاء، فهناك المشكلة الكبرى. إنه “السلطة” غير المكتملة التي تفتقد الحد الأدنى من الاستقلال المالي والإداري ما يجعلها عمليّاً رهينة دائمة للسلطة السياسيّة التي لا تكف عن التدخل بشؤونها ترقية وترفيعاً وتشكيلات (بالمناسبة، قارب العهد على الانتهاء ولم يوقع الرئيس التشكيلات القضائيّة!). لعل أبرز عثرات النظام السياسي الراهن، بالاضافة إلى طائفيته المقيتة، هو غياب السلطة القضائيّة المستقلة، ما يعطل عمليّاً كل آليّات المساءلة والمحاسبة وفصل السلطات.

يبدو أن الأوجه الأخرى للانهيار البشع لم تتكشف جميعها بعد! “الخير لقدام”!

شارك المقال