دار الفتوى… دور وطني معتدل وجامع

حسين زياد منصور

لطالما لعبت دار الفتوى في لبنان دوراً وطنيا جامعاً منذ تأسيسها، وسعت الى احتضان جميع أبناء الوطن من مختلف الطوائف والمذاهب (مسيحيون ومسلمون) والعمل على جمع السنة على الرغم من الاختلاف في توجهات بعضهم، كل ذلك انطلاقاً من موقعها الوطني المعتدل والجامع. وعلى مر السنوات، دعت الى نبذ الطائفية، وجمعت تحت قبتها وفوداً من مختلف التوجهات السياسية والطائفية في سبيل الوحدة الإسلامية والتعايش الإسلامي – المسيحي فضلاً عن الوساطة في حل المشكلات السياسية والعقد الرئاسية.

البداية

في العام ١٩٠٩، صدر فرمان عثماني قضى بتنصيب الشيخ مصطفى نجا مفتياً لبيروت (تحت حكم الدولة العثمانية). وكان الشيخ نجا الذي ولد عام ١٨٥٢، عالماً تقيّاً ورعاً ويعتاش من التجارة.

في العام ١٩١٥، أعدم جمال باشا السفاح مجموعة من الشبان اللبنانيين، حينها رفض الشيخ نجا التوقيع على قرار الإعدام أو إعطاءه الإذن والحق الشرعي بملاحقة الشباب.

الى جانب ذلك، كانت له آراء عند إقرار الدستور ثم رفض عرض المندوب السامي بتعيينه مفتياً للجمهورية اللبنانية.

في ٣٠/١/١٩٣٢ توفي المفتي نجا، وفي ٦/٢/١٩٣٢انتخب الشيخ محمد توفيق عمر خالد مكانه، ثم في ٩/٧/١٩٣٢ صدر مرسوم يحمل الرقم ٢٩١ يقضي بتلقيب مفتي بيروت بمفتي الجمهورية اللبنانية.

المفتون السابقون

المفتي الحالي لدار الفتوى هو الشيخ عبد اللطيف دريان، وسبقه في تولي المنصب أربعة مفتين هم الشيخ محمد توفيق خالد والشيخ محمد علايا والشيخ حسن سعد الدين خالد والشيخ محمد رشيد قباني.

– الشيخ محمد توفيق خالد ولد في بيروت عام ١٨٧٤، وفي مدرسة الرشديّة التي عرفت بالعسكرية تلقى علومه الأولى، عمل مدرّساً للغة العربية والدين في المدرسة الوطنية في بيروت حتى أنشأ مدرسة التوفيق الإسلامية عام ١٩٠٠، وفي عام ١٩١٩ تدرج في عمله بالمحكمة الشرعية في بيروت من كاتب حتى أصبح رئيساً للكتبة ثم نائباً للقاضي، خلال تلك الفترة عمل مدرّساً في الجامع العمري الكبير وخطيباً في أحد مساجد بيروت، الى حين انتخابه لإفتاء بيروت. وبحضور حوالي ٣٦ شيخاً من علماء بيروت الذين يشكلون الهيئة الانتخابية للإفتاء في ذلك الحين انتخب بأكثرية الأصوات. وبعد العام ١٩٣٢ أصبح أكبر مرجع ديني في لبنان مفتي بيروت وبقي في منصبه إلى حين وفاته سنة ١٩٥١ ودفن في مقبرة الامام الأوزاعي.

في عهده تمكن من تحرير الأوقاف الإسلاميّة في لبنان من السيطرة الأجنبيّة، الى جانب البدء بتشييد مقر دار الفتوى الاسلاميّة، وتأسيس الكليّة الشرعية في بيروت والتي أصبحت تعرف بـ “أزهر لبنان”.

– الشيخ محمد علايا ولد عام ١٨٩٠، وعرف بمواقفه الوطنية وسعيه الى الحفاظ على اعمار المساجد والمحاكم الشرعية والكلية الشرعية وادارة الأوقاف ووقف العلماء خلال أصعب الظروف. في ١٩/٨/١٩٥١ انتخب مفتياً للجمهورية اللبنانية، وفي ١٤/١١/١٩٦٦ اعتزل منصب الإفتاء بطوعه، لكن قبل ذلك كان عضواً في محكمة التمييز الشرعية ثم من العام ١٩٣٢ حتى ١٩٥١مستشاراً للمحكمة الشرعية العليا.

– الشيخ حسن خالد ولد بيروت عام 1921، بدأ علومه الأولى في مدرسة عمر الفاروق التابعة لجمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلامية في بيروت. بعد حصوله على شهادة الدروس الابتدائية التحق بالكليّة الشرعية في بيروت – أزهر لبنان حالياً حتى تخرج منها سنة ١٩٤٠، بعدها كلفته المديرية العامة للأوقاف الإسلامية ليكون خطيباً في بعض مساجد بيروت.

أرسل مع بعض زملائه الى الجامع الأزهر في مصر لمتابعة تخصصه العالي في العلوم الدينية ودرس في كلية أصول الدين حتى تخرج منها عام ١٩٤٦. بعد عودته إلى لبنان عيّن كاتباً في المحكمة الشرعيّة في بيروت وترقى الى مرتبة رئيس قلم.

نجح في امتحانات لاختيار قضاة لبعض المحاكم الشرعيّة، فعين قاضياً في محكمة عكار الشرعيّة ثم في محكمة شحيم في إقليم الخروب، خلال تلك الفترة ألقى بعض الخطب في مساجد بيروت فضلاً عن التدريس في أزهر لبنان.

بعد أن استعفى الشيخ علايا منصب الإفتاء بسبب الشيخوخة، بادر الشيخ حسن خالد إلى ترشيح نفسه وانتخبته بالإجماع الهيئة الناخبة. استناداً الى ثقافته الدينية الواسعة ألف عدداً من الكتب.

في ١٩ أيلول من العام ١٩٨٩ استشهد المفتي خالد، بانفجار سيارة ملغومة أثناء مرور سيارته في منطقة عائشة بكار.

– الشيخ محمد رشيد قباني ولد في١٥ أيلول ١٩٤٢ في بيروت، وكان والده الشيخ راغب قباني من علماء بيروت. عام ١٩٦٢ حصل على الشهادة الثانوية الشرعية من أزهر لبنان، وفي العام ١٩٦٦ حصل على الليسانس في الشريعة والقانون ثم عام ١٩٦٨على الماجستير في الفقه المُقارن والدكتوراه عام ١٩٧٦ من جامعة الأزهر في القاهرة. في العام ١٩٧٨ عيّن مديراً عامّاً للأوقاف الإسلامية، وبين العامين ١٩٧٧ و١٩٨٩ عمل مُدَرِّساً للفقه الإسلامي في كلية الحقوق في جامعة بيروت العربية، وكذلك منذ ١٩٨٢ حتى ١٩٨٩ في المعهد العالي للدراسات الاسلامية التابع لجمعية المقاصد الإسلامية.

عام ١٩٨٤ عُيِّن أميناً للفتوى في الجمهورية اللبنانية، وفي العام ١٩٨٩ اتخذ المجلس الشرعي الاسلامي الأعلى قراراً قضى بقيامه بمهام المفتي إلى حين انتخاب مًفتٍ جديد إثر استشهاد الشيخ حسن خالد، وفي ٢٨ كانون الأول عام ١٩٩٦ انتخب مفتياً للجمهورية اللبنانية. وله مؤلفات عدة.

على مدى السنوات الماضية كان دور دار الفتوى مهماً وفاعلاً ووطنياً، على الرغم من المحاولات الكثيرة للحد من دورها وعدم تعاظمه، في مقابل دعم الكثيرين ووقوفهم الى جانب الدار واستمرار عطائها.

شارك المقال