دوام الحال الإيرانية من المُحال… وقوارب الموت ليست حلّاً

عبدالوهاب بدرخان

بين أواخر نيسان (أبريل) الماضي وأواخر أيلول (سبتمبر) الحالي قضى أطفال ونساء ورجال غرقاً في البحر. حاولوا الهروب من جحيم لبنان، باعوا كلّ ما يملكون ليستقلّوا قارب الموت، وخسروا كلّ شيء، أما تجار مافيا التهريب فراكموا أرباحاً على أرباح. عُرفت أسماء الضحايا، ولم يُكشف عن أيٍّ من المجرمين الذين رتّبوا لهم وسيلة هذا الانتحار الحتمي. قد يُعرف هؤلاء لكن لا “أدلة” تدينهم، إما لأن شيئاً لا يربطهم بملكية القوارب ولأن أحداً لم يتعامل معهم مباشرة بل مع عملاء لا يلبثون أن يتواروا ليظهر بدلاء منهم بعد حين، وإمّا لأن هذا “الاتجار بالبشر” محمي بمنظومات سلطوية مرتشية، كما هي الحال في كل منافذ التهريب على شواطئ المتوسّط.

قبل هذه المآسي وبعدها هناك من نجحوا فعلاً وبدأوا مغامرة البحث عن “حياة أفضل”، عن فرصٍ قد تأتي سريعاً أو تتأخر. وهناك من انتهوا في مخيمات إيواء يعيشون فيها ظروف الذلّ والمهانة، لكنَّ لديهم أملاً في أن تتغيّر أحوالهم ويكون لهم مستقبل، أو أقله لأولادهم. ربما يبيت بعضهم في أماكن لا تتوفّر فيها الكهرباء والماء، إلا أن هيئات دولية شتّى تأتيهم بالطعام وتبعد عنهم مخاطر الجوع وبعضاً من الرعاية الصحّية. يقولون إن هذا “أفضل” من اللاشيء الذي يعيشونه في لبنان حيث يواصل المرء رؤية انسانيته تتلاشى يوماً بعد يوم. ولذلك ستستمر المحاولات كما لو أن المآسي لا تثبط العزائم بل تحفّزها، إذ يزول الفارق بين موتٍ لم يختروه لكنه يدهمهم وموتٍ يختارونه بمجازفة قد تنتهي بنجاتهم. قوى الأمن تقول إنها توقف ثلاثة الى أربعة قوارب يومياً، ومصادر عدة تقول إن عائلات كثيرة تتجهّز للهجرة. تُسمّى هذه في القانون الدولي “هجرة غير شرعية”، ولا يوجد توصيف “قانوني” لـ”شرعية” العيش في بلادٍ لا دولة فيها تُسأل عن مصير مواطنيها.

هذا البلد يصدّر فرقة “ميّاس” وأفواجاً من المتفوّقين في المجالات كافة ليصبح عنواناً للنجاح العلمي والرقيّ الثقافي والحضاري، فيحجز لنفسه مكاناً على خريطة العالم الحيّ. أما اللادولة المتخذة من الضاحية الجنوبية لبيروت عاصمةً لها فباتت عنواناً لـ “الابداع” في تصدير ميليشيات الاجرام والفتن وشحنات الكبتاغون و… قوارب الموت، لتُضاف الى اللائحة المتزايدة عربياً من الدول الفاشلة أو اللادُول. لكن ينبغي الاعتراف بأن لبنان صار من أكثر “اللادُول” تميّزاً، ففي سوريا والعراق واليمن وليبيا أرادت الشعوب وتريد أن تتخلّص من الاستبداد فغرقت في انقساماتها، أما لبنان الذي لم يعرف حالاً استبدادية موصوفة فإن انقساماته تبدو في صدد استيراد دكتاتورية الملالي التي لا تعرف سوى القمع الدموي والوحشي ردّاً على أي انتفاضة وتهرباً من أي مساءلة عن ممارساتها.

من تمايزات لبنان أيضاً أن النظام يدمّر نفسه بنفسه لئلا يستجيب لدعوات الشعب الى التغيير. منظومة السلطة التي تذكّر دائماً بأن الحكم “ديموقراطي” تريد بدورها تغييراً لكي يبقيها بل يؤبّدها في الحكم. فالمرشح لوراثة ميشال عون لا ينفكّ يثرثر ويخترع الذرائع والسفاسف للدفع بـ”حقّه” في خلافة عمّه الرئيس، لا لشيء إلا لأن الرئيس وصهره لا يأتمنان أحداً، ولا حتى حليفهما “حزب إيران” (المدعو “حزب الله”)، لحراسة جهنم التي يحاجج جبران باسيل في أحدث مقابلاته بـ “أننا قاتلنا وضحّينا” لتوصيل اللبنانيين إليها. وعندما يكون هذا المخلوق مقتنعاً الى هذا الحدّ بأنه لا يزال يصلح لأي مكان خارج مزبلة التاريخ، فإنه يريد الإقناع بأن بينه وبين حليفه الإيراني خلافاً على “فكرة قيام الدولة”، لكن الخلاف إذا وُجد فلأن “الحزب” لم يكرّسه مرشحاً وحيداً للرئاسة، كما فعل مع عمّه الجنرال، بل حافظ على وعده لسليمان فرنجية، بل ان مصالح لـ”الحزب” وظروفاً استجدّت الآن قد تصعّب على “الحزب” الوفاء بهذا الوعد، وعلى الرغم من أن إيران و”حزبها” لا يريان أن مرشحهما “يحرز” أن يفرضا من أجله شغوراً رئاسياً، كما فعلا من أجل عون، إلا أنهما لا يزالان في حاجة الى “تغطية مسيحية” باتت مهترئة ومتآكلة.

أين المسترئسون في خدمة إيران و”حزبها” من واقع البلد الذي بلغ درجة من اليأس لا يكترث معها الشعب بهم وبمن يدير مفاتيحهم؟ إسرائيل والولايات المتحدة تتلاعبان بهم في مسألة ترسيم الحدود البحرية، وإيران تتلاعب بهم لتأمين استحواذ “حزبها” على الثروة الغازيّة والنفطية. والجميع في الداخل ينشغل بالبيان الثلاثي (الأميركي – الفرنسي – السعودي) وكيف أنه يشدد على وجود حكومة يمكن التعامل معها، وعلى استحقاق رئاسي في موعده ويأتي برئيس يجمع ولا يفرّق، وعلى اتفاق الطائف كمؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، وعلى دور الجيش وقوى الأمن في حفظ الاستقرار… لا جديد في أن هذه البنود الأربعة تشير الى ثوابت مهدّدة من إيران و”حزبها”، فالحكومة تكون مطواعة أو تسقط، والرئيس يكون في جيب “حزب إيران” أو لا يكون، واتفاق الطائف يُنتهك دستوره تكراراً إمّا مباشرة أو بواسطة الأداة العونية، أما الجيش وقوى الأمن والأجهزة فتراوح بين تحييد وتدجين. هذا هو الواقع الذي تدركه أطراف البيان الثلاثي وغيرها ولا تستطيع اختراقه، وهو أيضاً الواقع الذي يقذف باللبنانيين الى البحر، برفقة سوريين وفلسطينيين، بعدما فشل المجتمع الدولي في إيجاد الظروف في ابقائهم في بلادهم، ولا يريدهم الآن كلاجئين.

شارك المقال