أوكرانيا خسارة الجميع

محمد علي فرحات

من كان يتخيل وصول ألمانيا الى تراجع اقتصادي دراماتيكي انعكس سلباً على استقلالها السياسي فأصبحت أبرز ضحايا حرب أوكرانيا؟ تلك الحرب أهدت أوروبا مأزقاً داخلياً لشعوبها وطريقاً مسدوداً أمام علاقاتها بالعالم، فهي اليوم محكومة بهواجس البرد وندرة الغذاء وبحرب في قلب مناطقها الشرقية التي تحررت من الاتحاد السوفياتي بعد انفراطه، وبتهديد روسي بحرب نووية محدودة قد تكون قابلة للاتساع.

هي الحرب على أرض أوكرانيا وبدماء شعبها وبخراب زراعتها وصناعتها وبدمار مدنها. حرب تقودها واشنطن وموسكو والباقون كومبارس، في مقدمهم برلين التي كانت قلب أوروبا وصخرتها وعنوان ثقة العالم بها.

والنظام السياسي في كل من واشنطن وموسكو يبدو اليوم في أسوأ حالاته، إذ يصدر الى العالم الأزمات المفتوحة بدل أن يضع الصراع الدولي في اطار المصالح ولا يتعداه الى قرارات عمياء تؤذي جميع المتصارعين، فالحكم في الولايات المتحدة يدخل في معادلة تعطيل قرارات الدولة، وذلك نتيجة التمثيل المتساوي للحزبين الديموقراطي والجمهوري في مجلسي النواب والشيوخ، لذلك يصعب على واشنطن اتخاذ قرارات أساسية لا تحظى برضى الحزبين المتنافسين فلا تصدر سوى قرارات هامشية. وهذا الوضع يؤثر بصورة غير مباشرة على التحركات العسكرية التي كانت تحظى بقدر من الاستقلالية من حيث الشكل.

هكذا الدولة الكبرى في العالم تديرها هيئة تشريعية قلقة تتعثر بنتيجتها حركة السلطات التنفيذية. أما روسيا، الدولة الكبرى الثانية، فتبدو أقرب الى ادارة ديكتاتورية في الجوهر وديموقراطية في الشكل، تنجز تقدماً في المجال العسكري وتعجز عن توليد اقتصاد حديث مكتفية بموارد طبيعية كالنفط والغاز والزراعة. ويسيطر على فكر الرئيس فلاديمير بوتين هاجس استعادة الاتحاد السوفياتي السابق، لجهة النفوذ على الأقل، فعلى الرغم من مرور سنوات على انهيار النظام السابق وتفكك جغرافيته لم يستطع الحاكمون الجدد في موسكو، وأبرزهم بوتين، رسم سياسة للدولة متناسبة مع جغرافيتها الجديدة.

من هنا خطر المشكلة الأوكرانية على روسيا والتعامل الأميركي غير المسؤول مع هذه المشكلة، فلم تستجب واشنطن لنداءات موسكو بضبط السياسة المتصلبة للحاكمين في كييف بقدر ما شجعت هذا التصلب وتستمر في توظيفه لتركيع موسكو، وهناك جهات أميركية تعتبر أوكرانيا كعب أخيل الذي سيتسبب بتقسيم روسيا نفسها، وذلك في سياق حروب باردة أو ساخنة استباقية للمحافظة على الأحادية الأميركية في قيادة العالم.

كان بوتين يأمل في خضوع حكام أوكرانيا لشروطه باستعادة شبه جزيرة القرم الى ادارة موسكو والمحافظة على مصالح المواطنين الأوكرانيين من أصل روسي الذين يشكلون الغالبية في مناطق عدة في أوكرانيا. لكن النظرة العدائية في أوساط الوطنيين الأوكرانيين المتعصبين مشفوعة بتشجيع واضح من الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، أفشلت آمال بوتين الذي يستنهض في هذه المرحلة المزيد من القوة العسكرية الروسية بما في ذلك السلاح النووي.

ويعرف حكام كييف كما تعرف واشنطن وعواصم أوروبا والمتابعون في العالم أن أوكرانيا لم تكن موجودة كدولة قبل الحرب العالمية الأولى، وأن الحكم الشيوعي الوليد في موسكو هو الذي أنشأها في عشرينيات القرن الماضي، وجرى توسيعها في عهد نيكيتا خروتشوف (الأوكراني الأصل) فضم اليها في ستينيات القرن الماضي شبه جزيرة القرم ومناطق أخرى، هي تماماً الأراضي التي يريد بوتين اليوم استرجاعها بسكانها ذوي الأصل الروسي.

الأزمة مفتوحة وكذلك أضرارها على أوروبا، بما فيها روسيا، والحكام القصيرو النظر في واشنطن وموسكو عاجزون عن تحمل مسؤولية استعادة سلام تتهدده أطماع لن تحقق سوى الخسائر.

شارك المقال