من يتحمل المسؤولية أكثر؟

رامي عيتاني

لم تكن قضية المدعو عبد سوبرة الأولى من نوعها في موضوع اقتحام المصارف من أجل إستعادة الحقوق المشروعة للمودعين، وبطبيعة الحال لن تكون الأخيرة بعد سلسلة عمليات مشابهة منذ اقتحام المودع بسام الشيخ حسين في آب الماضي بسلاح حربي بلاستيكي واستعادته جزءاً من ماله من أجل معالجة مرض والده، تبعته جرأة سالي حافظ التي استعطفت الرأي العام اللبناني بعد اقتحامها المصرف أيضاً بسلاح بلاستيكي من أجل معالجة شقيقتها مريضة السرطان، وغيرها من أعمال إقتحام مشابهة تنذر بالمزيد في أي لحظة وفي أي مكان على الاقليم اللبناني.

لكن يبقى سؤالان مطروحان في هذا السياق حول الوصف القانوني لهكذا تصرفات ومدى تداخل الأسباب الإنسانية المبررة فيها من عدمه؟ ثم من هي الجهة المسؤولة عن هذه المواجهة الأمنية بين المصارف والمودع؟

بالنسبة الى الموقف القانوني من عملية إقتحام المصارف من قبل مودعين أصحاب حقوق، فيمكن إسناد وصفها القانوني الى المادة 184 من قانون العقوبات اللبناني المتعلقة بحق الدفاع المشروع، أو استيفاء الحق بالذات، بحيث تنص على أنه “يعد ممارسة حق كل فعل قضت به ضرورة حالية لدفع تعرض غیر محق ولا مثار على النفس، أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، ويستوي في الحماية الشخص الطبيعي والشخص المعنوي”.

كما وتنص “المادة 228 – عقوبات” على أنه “إذا أفرط فاعل الجريمة في ممارسة حق الدفاع المشروع، لا يعاقب إذا أقدم على الفعل في ثورة انفعال شديد انعدمت معها قوة وعيه أو إرادته”.

الا أنه في الوقت عينه فإن القانون اللبناني يمنع بشدة استيفاء الحق بالذات لكن في شروط معينة نصت عليها المادة 429 من قانون العقوبات اللبناني، حيث جاء فيها أنه “من أقدم استيفاءً لحقه بالذات وهو قادر على مراجعة السلطة ذات الصلاحية بالحال على نزع مال في حيازة الغير أو استعمال العنف بالأشياء فأضر بها عوقب بغرامة لا تتجاوز المائتي ألف ليرة”.

علماً أن المادة 430 تشدد العقاب “إذا اقترف الفعل المذكور في المادة السابقة بواسطة العنف على الأشخاص أو باللجوء إلى إكراه معنوي بسجن الفاعل ستة أشهر على الأكثر فضلاً عن الغرامة المحددة سابقاً، وتكون عقوبته الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين إذا استعمل العنف أو الإكراه شخص مسلح أو جماعة من ثلاثة أشخاص أو أكثر ولو غير مسلحين”.

كما أن المادة 431 من قانون العقوبات اللبناني تنص على “توقف الملاحقة على شكوى الفريق المتضرر إذا لم تقترن الجنحة المذكورة بجريمة أخرى تجوز ملاحقتها بلا شكوى”.

وفي الوقت الذي يرى البعض أن اقتحام المصارف يثير جدلاً قانونياً، يعتبر البعض الآخر أن “شروط عدم ملاحقة المقتحمين للمصارف متوفرة قانونياً، في ظل اعتكاف القضاة، فلو تمكّن المودع من مراجعة القضاء ثم أخذ حقه بالقوة لانطبقت عليه المادة 429 من قانون العقوبات، لكن نحن أمام تطبيق المادة 184، كونه ليس لدى المودع مرجعية قضائية كي يستوفي حقه، فالقضاة مضربون عن العمل، والمصارف لا تستجيب لأحكام العقود القانونية بينها وبين المودعين، أما حالة الضرورة فتتمثل في تحصيل الأموال من أجل القدرة على العيش والطبابة والتعليم”.

ويرى هذا الجانب القانوني أن الوديعة ليست مالاً نقدياً موجوداً فعلياً في صندوق أو خزينة المصرف، بل هي التزام قانوني، علماً أن “سياسة إغلاق المصارف أبوابها منذ بدء الأزمة عام 2019 حتى يومنا وإقناعها المودعين بأن جزءاً كبيراً من ودائعهم تبخر، هي التي تدفع المودعين الى التفكير في القيام بعمليات الاقتحام التي يعاقب عليها القانون من حيث المبدأ، ولو كانت هناك حلول أخرى لكان المودعون اتبعوها”.

ونذكر بأن اقتحام المصارف تزامن مع دعوى قضائية تقدمت بها نقابة المحامين في بيروت لاسترداد وديعتها “من أحد المصارف بعد توقفه عن الدفع لها، وذلك استناداً الى القانون 2/67 الذي يعالج وضع المصارف حين تتوقف عن الدفع، وهو ينص على إجراءات خاصة يمكن للمحكمة اتخاذها في مثل هذه الحالة”.

وفي المحصلة، فإن القضاء اللبناني حسم الجدل القانوني مؤخراً حول موضوع الاقتحامات المصرفية، وقرر أنه سيتعامل مع كلّ مقتحم لمصرف بالقوّة بهدف استرداد وديعته باعتبار فعلته عملاً جرميّاً يستحقّ التوقيف والسجن وصولاً إلى الأشغال الشاقّة الموقّتة، حتى لو كان يحمل مسدّساً بلاستيكياً ويتعامل بإنسانية طافحة مع موظّفي المصرف… وحتى لو كان المبلغ الذي يسعى إلى الحصول عليه يمكن أن يُنقذ حياة إنسان قابع في المستشفى.

وقد ذهبت بعض الآراء الأمنيّة خلال اجتماع مجلس الأمن المركزي إلى حدّ تبرير استخدام الشدّة مع مقتحمي المصارف واعتبار إضراب المصارف “أمراً متوقّعاً وعاديّاً” أمام مسلسل الاقتحام المتكرّر، وأكد أحد مسؤولي جهاز أمنيّ أنّ نهار الاقتحامات كان أمراً منظّماً ومدبّراً ويجب التعاطي مع هذا الواقع من الآن وصاعداً باعتباره عملاً جرميّاً.

وقد تضمّنت قرارات مجلس الأمن المركزي التي يُفترض أن تكون سرّيّة ثلاث نقاط:

– بدءاً من أوّل يوم عمل للمصارف بعد انتهاء إضرابها سيتمّ التعامل مع أيّ اقتحام لأيّ مصرف بوصفه جناية سرقة وسطو مسلّح وتهديد بالقتل استناداً إلى استنابة قضائية أصدرها مدّعي عامّ التمييز القاضي غسان عويدات، وتلا المحامي العام التمييزي القاضي غسان الخوري مضمونها أمام أعضاء مجلس الأمن المركزي أثناء اجتماعه.

– ستتعامل الأجهزة بقسوة وشدّة مع كلّ معتدٍ على الأملاك العامّة والخاصّة ومَن يهدّد موظّفي المصارف بقوّة السلاح لاسترداد وديعته بالقوّة استناداً إلى استنابة عويدات للأجهزة الأمنيّة “بملاحقة الأعمال الجرميّة المرتكبة داخل فروع عدّة مصارف في لبنان والعمل على توقيف المرتكبين وإحالتهم لديه”.

– التقصّي الأمنيّ لمدى وجود عمل منظّم بين كلّ الاقتحامات التي يصدف أنّها توزّعت يوم الجمعة بين مناطق الغازية في الجنوب، والطريق الجديدة والرملة البيضاء في بيروت، والكفاءات في الضاحية الجنوبية، وشحيم في إقليم الخروب، وطالت مصارف متعدّدة. وقد جاء في استنابة عويدات: “العمل على كشف مدى ارتباطها ببعضها وتوقيف المحرّضين باعتبار هذه الأفعال بمثابة عمليات سطو مسلّح على المصارف وغايتها توقّف العمل المصرفي في لبنان وإحداث مزيد من أزمات مالية واقتصادية”.

وستكون قرارات مجلس الأمن المركزي محطّ اختبار في حال استمرّت الاقتحامات لاسترداد الودائع.

لكن يطرح هنا سؤال حول مدى فعالية هذا الحل الأمني لا القانوني ومدى نجاعته، إذ هل يحق للقوى الأمنية استخدام الشدّة مع “المودع” الذي يسعى إلى استرداد ماله من المصرف؟ وكيف يمكن استخدام الشدّة مع أصحاب حقوق وقد سُرق جنى أعمارهم بإشراف السلطة الحاكمة؟

لا شك أن مدخل حل هذه الأزمة لا يكون برد العنف بالعنف، ولا بكبت الصوت أو زيادة القهر، بل يكون بعودة العلاقة بين المودعين والمصارف إلى أسسها وطبيعتها، وذلك من خلال إقرار المصارف بالتزامها الحفاظ على الودائع، وتمكين المودعين من سحب أموالهم ولو بالحد الأدنى والقيام بالتحويلات والعمليات المصرفية التي يحتاجونها، عندها تنتفي رغبتهم بسحب كامل وديعتهم، بدليل أن كل الذين اقتحموا المصارف بالقوة في الأيام الأخيرة كانت لديهم حاجة ماسة جداً الى الأموال بسبب مرض أو وضع اجتماعي معين، وفي الوقت نفسه لم يطالب أحد منهم بسحب كامل وديعته، بل حاولوا سحب حاجتهم فقط.

إذاً من يتحمل مسؤولية هذا الصراع الحاصل بين المصرف والمودع؟

لا شك أن هناك جهتين اثنتين تتحمّلان مسؤولية المواجهة الأمنية بين المصارف والمودعين:

الجهة الأولى، وهي قطاع المصارف نفسه الذي اغتنى طيلة العقود الماضية على حساب المواطنين من الطبقة الفقيرة والمتوسطة، وأيضاً الدولة عبر هندساتها المالية التي جنت منها عشرات مليارات الدولارات وكانت إحدى أركان المؤامرة الاقتصادية عام 2019 بإقفال المصارف على المودعين مما تسبّب بحالة الهلع والفوضى بينهم، وبتهريب مئات ملايين الدولارات وتحويلها الى خارج البلاد قبل أزمة تشرين 2019 وبعدها بطريقة مدروسة وبتعميم لا يزال مجهولاً إلى الآن، فضلاً عن تهريب أموال المصارف الخاصة إلى فروعها في الخارج.

اما الجهة الثانية، فهي الدولة المتواطئة عبر أجهزتها ووزاراتها وسلطاتها السياسية، فبدلاً من أن تنتهج الحكومة حلّاً ماليّاً يُخفّف من وطأة كارثة خسارة اللبنانيّين لودائعهم، رأت أنّ أفضل الحلول يكمن في وضع المودعين بمواجهة العناصر الأمنيّة والعسكرية الذين يصدف أن يكون بينهم عسكر أو ضباط متقاعدون.

إن المسؤولية التقصيرية المتعمدة من الدولة المتمثلة ببعض أعضاء مجلس الوزراء وبعض النواب الذين ماطلوا بسبب خلافاتهم السياسية لتوزيع الخسائر المالية في تطبيق خطة التعافي المالي والنهوض الاقتصادي الذي يتضمّن الكثير من البنود الاصلاحية، لاسيما إصلاح القطاع المصرفي ومصرف لبنان و”الكابيتال كونترول” واستعادة الودائع تدريجياً، هي من أوجدت شعور اللاثقة بين المودع المسروق والمنهوب وبين المصارف المتعثرة، خصوصاً أن هاتين الجهتين (المصرف والدولة) حاولتا للأسف أن ترميا عجزهما على القضاء من باب تخفيف الأعباء ورمي كرة النار في ملعب القضاء، الذي للأسف هو قضاء مسيس في مكان ما ويتبع الأحزاب والمصارف التابعة لها أو المؤتمرة منها!.

لكن يبقى السؤال عما ستحمله الأيام المقبلة بالنسبة الى موضوع المصارف والعلاقة الكارثية مع المودعين، هل ستتحول هذه الأزمة من مجرد تهديدات بدوافع إنسانية إلى حلقات دم لاسمح الله من قبل طوابير المجرمين مما سيعرض موظفي المصارف وعائلاتهم أيضاً للخطر والرعب؟ أم أننا أمام سيناريو فنزويلي لن تفصلنا عنه سوى الأيام الثلاثين الأخيرة موعد نهاية العهد المشؤوم؟

شارك المقال