عندما كان شارع “الحمراء” يعرف بـ”جرن الدب”

زياد سامي عيتاني

للمدن شوارع، وللشوارع حكايات ولكل شارع حكاية… ولشارع “الحمراء” حكاية تاريخ تتصل بالمكان، بدأت مع لجوء “بني الحمرا” إليه عام 1407، فأعطوه إسمهم، عندما كان حقولاً وبساتين زراعية تسيّجه أشجار الصبير والتوت.

التسمية:

منذ القرن الخامس عشر ميلادي حلت جماعة من البقاع معروفة بـ “بني الحمرا” على جانب من ضاحية بيروت الغربية، في المنطقة التي كانت تسمى قديماً “جرن الدب”، والتي عرفت حديثاً بإسم “الحمراء”، نسبة إلى “بني الحمرا”.

ويقول المؤرخ المحامي عبد اللطيف فاخوري: “ان بني الحمرا أمراء الغرب من القبائل العربية اليمنية التي اضطرت تحت ضغط القبائل القيسية إلى مفارقة مواطنها الأصلية على ضفاف الخابور شمال العراق اليوم، إلى البقاع، ثم إلى مشارف بيروت”….

ومنطقة “جرن الدب”، أي “الحمراء” حالياً، كانت تعتبر جزءاً من منطقة “الرأس” (رأس بيروت)، التي كانت زراعية يقطنها الفلاحون، ويدخل إليها من جهات مختلفة بممرات متعددة لا يتجاوز الواحد منها ذراعان، فلا يكاد يتسع للرجل الواحد ودابته.

وحملت هذه المنطقة ذات الطبيعة الزراعية، بحسب المؤرخ الفاخوري أسماء عدة وفقاً لوثائق المحكمة الشرعية، ومنها: “كرم الحمرا”، “زقاق الحمرا”، “سهوم الحمرا” و”الظهر الأحمر”، إلى أن إستقرت التسمية النهائية على منطقة “الحمراء”.

“جامع الحمراء”:

وبالعودة إلى “بني الحمرا”، فإنهم منذ أن نزلوا في المحلة المنسوبة إليهم، عمدوا سنة 1407 ميلادية إلى بناء زاوية ومدرسة عرفتا لاحقاً بإسم “جامع الحمراء”، وذلك تبعاً للعادة التي كانت متبعة عندما يحل العرب في مدينة أو بلدة، حيث ينصرفون إلى تشييد جامع فيها، لينطلقوا منه في تنظيم شؤونهم العامة.

و”جامع الحمراء” الذي يقع في وسط منطقة الحمراء على الجهة الغربية لمدينة بيروت، بني بواسطة الأحجار التي اشتراها “بنو الحمرا” من رهبان الفرنسيسكان والعائدة الى أنقاض “كنيسة فرنسيس الأسيزي” منشئ الرهبانية الفرنسيسكانية، التي كانت قائمة بالقرب من “مسجد الأمير عساف”، وتداعت بسبب الاهمال التي طالها.

وحفر “بنو الحمرا” تحت أرض الجامع مغاور، لتكون ملجأ لهم، عندما يدهمهم العدو أو يتعرضون لأي خطر.

وكان هناك شرقي الجامع بئر تنبع منها الماء وإلى جانبها بركة تتجمع فيها مياهها، التي تستخدم للوضوء من المصلين قبل دخولهم حرم الجامع.

بداية التطور مع “الجامعة الأميركية”:

بقيت محلة “الحمراء” على هذا النمط الغالب عليه الطابع الزراعي، إلى أن بدأت رحلتها مع التطور العمراني والسكاني على نحو بطيء ومحدود عند بناء “الجامعة الأميركية” في بيروت على أرض منعزلة في “مزرعة الحمراء”، حيث وضع الحجر الأساس للمبنى الرئيس في 7 كانون الأول 1817، وأصبح لاحقاً مبنى “الكولدج هول”.

يشار في هذا المجال إلى أن أهالي “رأس بيروت” حينذاك قد سخروا من إنشاء “الجامعة الأميركية” في تلك البقعة، مرددين مقولتهم المشهورة: “يريدون أن يعلموا الواوية”، نظراً الى أن تلك المنطقة كانت مهجورة وتغزوها الحيوانات.

ولعبت “الجامعة الأميركية” مع مرور السنين دوراً أساسياً في إنماء الحياة السكنية فوق تراب “كرم الحمرا”، من خلال حركة طلاب الجامعة، الذين وجدوا في تلك المنطقة مكاناً قريباً من مركز دراستهم، فأقبلوا على إستئجار بيوتها، وشجعوا بذلك على مضاعفة عددها، لتلبية حاجاتهم.

وصف المنطقة قبل النمو:

وقد صور المشهد الحقيقي لما كانت عليه “مزرعة الحمرا” الأستاذ جبرائيل جبور حين كتب عن أحوالها خلال دراسته في “الجامعة الأميركية” أوائل عشرينيات القرن الماضي، بقوله: “لا أزال أذكر حين كنت طالباً أنه لم يكن في رأس بيروت شارع على جنبه بيوت سوى شارع جان دارك”.

ويضيف: “دعيت مرة إلى العشاء في منزل الأستاذ سيلي الأميركي، ولما عدت في المساء لم أصادف أحداً في الطريق، ولم يكن هناك أي نور لنستنير بضوئه، ولم يكن في مباني الجامعة كهرباء في أوائل العشرينيات، فكنا نستضيء في غرف النوم بقناديل الكاز. وكان على المرء إذا قطع شارع عبد العزيز إلى شارع جان دارك أن يعبر زقاقاً ضيقاً لا يزيد على ثلاثة أمتار، كله منعطفات وعلى جانبه شجر الصبير والتين، ومجرى لمياه الأمطار ومسير الدواب”.

ويتابع: “أول مبنى عصري على الطراز الحديث بني في شارع الحمراء هو البيت الذي بناه البروفيسور سيلي، ليكون سكناً له، وكان موضعه حيث مقهى الهورس شو اليوم، وذلك سنة 1923. وهذه الطرق لم تعرف التخطيط ولا التعبيد والاسفلت ومنها شارع الحمراء نفسه إلا سنة 1933، عندما قامت بلدية بيروت بهذا العمل، وألقت على شوارع المنطقة أسماء العائلات المجاورة لها”.

كذلك، قدم الكاتب جرجس الخوري المقدسي وصفاً حياً عن “مزرعة الحمرا” في مجلته “المورد الصافي” في العدد الصادر في آب 1937، تحت عنوان: “البقاع المباركة”، وقال: “كلامي الآن يتناول مزرعة الحمرا، وهي مزرعة مستقلة قائمة بنفسها، يدخل إليها من جهات مختلفة بممرات تتقاطع. إنني كلما شعرت بتعب أدخل الأزقة في هذه المزرعة المحبوبة. وهذا المدخل كناية عن خندق ضيق يجلل فوهته العليق وعلى جانبه النباتات والزهور الطبيعية ذات الروائح العطرة، ومن ورائها البقول الزاهية المفروشة في الحقول بيد الزارع المجتهد. نرى في هذه المزرعة بيوت الفلاحين مبعثرة، وبجانب كل منها الدجاج والحمام والبقر والغنم والحمير. وقد يطربك صوت العصافير تغرد على الأشجار آمنة. وتسمع نغمات وقع المعاول هو أطرب صوت موسيقي للذي يعرف قيمة الإستقلال الحقيقي”.

من جهته، الأديب والروائي محمد عيتاني يروي في إحدى قصصه “التي لا تموت” كيف بدأت تختفي المعالم الريفية من شارع “الحمراء”: “… كان والد صلاح البيروتي صاحب حانوت في الطرف الغربي من زقاق الحمرا في رأس بيروت، وأيام دراسة صلاح الابتدائية، كان عمال التعبيد قد بدأوا يحولون الزقاق المحاط بأشجار الصبير والتوت، وبالأكواخ ذات السقوف القرميد، والبيوت الفلاحية الصغيرة، إلى معبد تنشأ فيه هنا وهناك بعض المباني المتعددة الطبقات. وصل العمال ذات صباح إلى قرب حانوت أبي صلاح البيروتي، ووراءهم جاءت المحدلة، وبراميل الزفت قد سبقتهم. وبدأ يختفي هنا وهناك وجه المحلة الريفي الفلاحي، حقول البطاطا وبساتين التوت، خصوصاً أسيجة الصبير الكثيفة الأسطورية، وبدأت تظهر من أعلى مئذنة الزاوية (جامع الحمراء) فسحات بيضاء وصفراء معدة للعمران والطرق”.

إنها سيرة شارع “الحمراء” التاريخية، عندما فسحة زراعية، تشكل جزءاً وإمتداداً طبيعياً من محلة “رأس بيروت” التي كانت أشبه بقرية كبيرة في مدينة، وذلك قبل أن يكتسي حلته العصرية، ليصبح واحداً من أرقى شوارع بيروت وأكثرها أناقة، ذا صيت واسع، جعله مقصداً للسياح العرب والأجانب، فأطلق عليه “شانزيليزيه الشرق”.

شارك المقال