لا أحد يملأ “كرسي” سعد الحريري!

زياد سامي عيتاني

عندما أعلن سعد الحريري قراره تعليق العمل السياسي، وكذلك تياره، والإحجام عن خوض غمار الانتخابات، بغض النظر عن صوابية خياره من عدمه، الذي كان ككلّ حدث في لبنان، موضع إنقسام المتابعين والمحللين حياله، حتى داخل التيار نفسه؛ أثار قراره موجة عارمة من المواقف المتناقضة، التي تراوحت ما بين القبول (وإن على مضض) من الكوادر والمؤيدين، والتفهّم من المحللين الموضوعيين الحياديين، قابلتها موجةعارمة من المواقف التي هي أقرب إلى “الاحتفالية” بإنتهاء الحقبة “الحريرية” من الانفعاليين الحاقدين.

وقد أخلى سعد الحريري من خلال خياره، الساحة الانتخابية على إمتداد خارطة دوائرها “الجيو-مناطقية”، تاركاً “الحلبة” الانتخابية فسيحة ورحبة ومشرّعة أمام كلّ الطامحين من المتباكين (السياديين والتغييريين) الذين يُحمّلونه مسؤولية اليأس والإحباط والإنكسار المعنوي، الذي أصاب الشريحة المجتمعية التي يمثّلها، عسى أن يتمكنوا من إستعادة القرار السيادي، وحصر السلاح بالدولة، ووقف الإنهيار، وتلبية مطالب اللبنانيين الذين عبروا عن آلامهم خلال حراك (١٧ تشرين)، من خلال ماسيطرحونه من خطط ومشاريع إنقاذية طموحة، قابلة للتنفيذ العملي على أرض الواقع.

كذلك، فإنّ قراره الإنكفائي الإختياري، كان من المفترض أن يريح خصومه السياسيين، وأن يجعلهم ينصرفون الى تحقيق الإنجازات و”المعجزات” الوطنية والإقتصادية والإجتماعية، بعدما أبعد نفسه عن المشهد السياسي، ومن أمام من رفعوا بسببه لاعتبارات شعبويةأسخف شعار سياسي: “ما خلونا!”.

خلاصة القول، (من دون تقويم دقيق لما بلغه لبنان من سرعة في وتيرة إنهياره، بعد إنكفاءالحريري)، أنّ كلا الفريقين تعاطى وتعامل مع قرار  الحريري الإبن، بأن البيان الذي تلاه من “بيت الوسط” هو بيان إستقالة نهائية من الحياة السياسية، (وإن كانت صياغته مبهمة وملتبسة)، وذلك بعدما فقد إرث والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري، على مختلف الصعد، لاسيما علاقاته الخارجية، وحيثيّته السياسية، ووزنه المؤثّر، وحجمه الشعبي، فضلاً عن إمبراطوريته المالية.

وإنطلاقاً من توصيفهم، باتوا يتعاطون مع الحريري الإبن وتيار “المستقبل” على أنهما مجرد ذكرى من الماضي، يكتفي مناصريهما بالبكاء على أطلال الأمجاد، التي لن تستعاد، وبالتالي فلن يكون لهما لا حاضراً ولا مستقبلاً أي دور سياسي على الاطلاق.

وعلى الرغم من كلّ ذلك، فإنّه يمكن للمراقبين والمتابعين لمسار وسائل الإعلام المختلفة واتجاهاتها، الملاحظة من دون عناء، أنه ومنذ قرار الحريري، تنطلق منها وعبرها حملات منظّمة ومبرمجة لتعيد تجديد “نعي” الحريرية أو المستقبل السياسي للرئيس سعد الحريري، وتحديداً عند كلّ حدث أو إستحقاق سياسي، عندما يكون محتاجاً الى ضمانة وطنية وميثاقية، أو ذا صلة بالطائفة السنّية (آخره لقاء دار الفتوى).

واللافت أن هذه الحملات ليست مقتصرة على جهة إعلامية تدور في فلك سياسي واحد، بل انها تنطلق عبر وسائل إعلامية مختلفة في توجهاتها ودورها، تبعاً للجهات المموّلة والموجهة لها، والتي تملي عليها ما ينبغي كتابته، بهدف توجيه رسائل سياسية، لمن يرغبون في إبلاغهم قرارات محددة!.

ولكن من خلال “نعيهم” السياسي المستقبلي لسعد الحريري، فإنّهم أنفسهم يبقونه حيّاً وحاضراً، لا بل هم أنفسهم من يعيدون إستحضاره بقوة إلى الواجهة السياسية والإعلامية، (عن غير قصد)، على الرغم من إستمرار إلتزامه بقراره تعليق العمل السياسي.

فهل هذه الحملات الموتورة لا تعدو أن تكون دوافعها ومفاعيلها مجرد إطار للتعبير الدائم عن الحقد المزمن والمتجذّر في النفوس السقيمة والعقول المريضة لمحركيها ومنفذيها ومن يقف خلفها؟ أم أنها تنطوي على مدلولات سياسية تتعلّق بمسار التطورات الدراماتيكيةالمتلاحقة الخارجة عن سيطرة الذين هلّلوا لقرار الحريري، واعتبروه إنتصاراً لهم؟

في الواقع يمكن الإجابة عن السؤالين بنعم كبيرة، بحيث أنّ القوى التي إنتابتها نشوة الإنتصار، عقب قرار الحريري، اعتقدت أنها ستتمكّن من الإفادة منه وإستثماره خدمة لمصالحها، تكبيراً لأحجامها (وإن تورّماً)، غير مدركة للأثر السلبي الذي يمكن أن يتركه خروج سعد الحريري (ولو مؤقتاً) من المعادلة السياسية في أخطر مرحلة يمرّ بها لبنان!.

كذلك فاتهم أنّ خروجه سوف يتسبّب بتداعيات عميقة في موازين القوى المحلية، وسيكون له إنعكاسات خطيرة على مستقبل لبنان الكيان والصيغة، تهدّد نظامه التعددي، وتغيّر وجهه الحضاري، وتسلخه عن محيطه العربي.

وما زاد من قعر الخلل وغوره في التوازن الوطني الداخلي، عدم تمكّن الإنتخابات النيابية من إنتاج بدائل جديّة عن الحالة والزعامة الحريرية، ولو بأحجام مصغّرة مناطقياً، موزّعة زعاماتياً على مستوى المحافظات، الأمر الذي فاقم حالة التهميش واللادور للسنّية الوطنية، المتعمدة من  أعداء الحريري التقليديين والمستجدين.

وهذا ما برز جلياً خلال الجلسة الأولى لإنتخاب رئيس الجمهورية، حيث لم يكن للنواب السنّة مرشح، بل توزعت أصواتهم متبعثرة، بلا وظيفة وطنية محددة، بعدما كانت الزعامات الوطنية السنّية تاريخياً شريكة أساسية في الاستحقاق الرئاسي بالتوافق مع جميع المرجعيات الدينية والقيادات السياسية، وفي مقدمها البطريركية المارونية، إنسجاماً مع دورها التوافقي والضامن وطنياً وميثاقياً، عندما كان ينظر إلى خياراتها وإقتراعها الرئاسي على أنّه حاسم بالمعنى الإيجابي للتوجّه التوافقي.

وإزاء غياب الضمانة الوطنية، وفي ظل الجنون السياسي المستشري، (إذا ما إستثنينا محاولات الرئيس نبيه بري التوافقية، والتي لا تلقى أيّ تجاوب)، بعدما قرّر الرئيس سعد الحريري أن لا يكون في صلب مشهد الصراع والإنقسام والإنهيار، وإزاء تشتّت وتوزّع النواب السنّة في غير إتجاه، فإنّ جميع اللاعبين السياسيين باتوا مأزومين ومكبلين وعاجزين، لا قدرة لديهم على إطلاق أيّ مبادرة وطنية حيال كلّ الأزمات المستفحلة، وفي مقدمها الاستحقاق الرئاسي الداهم، الذي يعوّل عليه الداخل والخارج ليكون قاعدة ثابتة للإنطلاق منها نحو الشروع في عملية إنقاذ ما تبقى من لبنان.

وإزاء تأزّم القوى السياسية، على الرغم من الأزمة المفتوحة على كلّ المخاطر التي يعيشها لبنان، فإنّها لا تعير ما بلغه الوطن والمواطن من إنهيار غير مسبوق، بل على العكس تمعن وتسترسل في الصراع في ما بينها من أجل تحقيق مكاسب سلطوية وهمية، مستعينة بالتعطيل والفراغ، كوسيلة للضغط والمقايضة على بعضها البعض.

وكي تجد تبريراً لسقوطها وإفلاسها السياسي والأخلاقي، ولأنّها لا تملك مشروعاً إنقاذياً، تتعمّد دائماً الطلب من إعلامها وأبواقها تصويب سهام حقدها وضغينتها على الرئيس سعد الحريري وتيار “المستقبل”، وتخصيص مساحات واسعة لإطلاق العنان لمخيلاتها في نشر الأكاذيب والأضاليل، البارعة فيها، بفضل تمرسها عليها لدى الأجهزة التي تعمل كتبة تقارير عندها.

وبما أنّ الرئيس الحريري بات “عدوّاً” مشتركاً بين كلّ هذه القوى المتحالفة والمتصارعة، حتى وهو خارج حلبة صراعاتها العبثية الهدامة، فإنّها وجدت في إستهدافه ضالتها، بهدف ملء خوائها السياسي، وشدّ عصب جمهورها، مع تكاثر أزمة الثقة بينها وبينه وتعاظمها.

لكن من يتعمّق في تحليل هذا السلوك، الذي ينمّ عن توتر وضياع تلك القوى، يدرك تماماً أنّ جوهر وصلب هذه الحملات المتكررة والمتواصلة على الرئيس الحريري، مرده إلى فشل تلك القوى مجتمعة ومتنافرة، على الرغم من كلّ محاولاتها المستميتة، في تجريد الحريري الإبن من الموقع والمكانة اللذين ورثهما من والده الشهيد، وكذلك إيجاد بديل، وأول بدائل جديّين عنه يمتلكون هويّة ومرجعية سياسية وحيثية شعبية، تكون قادرة على توظيفها لتأمين شراكة وغطاء مزعومين، خدمة لمصالحها وأنانيتها السياسية الضيقة، مما أسقط كلّ رهاناتها الخاطئة وتمنياتها، وأفسدت أفراحها الاحتفالية بإقصاء سعد الحريري، عندما قرّر إخلاء “الكرسي”، من دون أن يتمكّن سواه من أن يملأه.

شارك المقال