شعر المسيحيين العرب في النبي الصادق الأمين

محمد علي فرحات

كتب الشعراء المسيحيون العرب قصائد كثيرة في النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي شخصيات أخرى مؤثرة في انطلاقة الدين الإسلامي وانتشاره في منطقتنا والعالم، وكانت تلك القصائد تعبيراً عن العروبة كرابطة مشتركة بين المسيحيين والمسلمين. وشجع هذا الأمر تسامح الإسلام واعترافه بحق المسيحيين ومعهم اليهود في ممارسة شعائرهم الدينية، وحفظه هذا الحق ودفاعه عنه في وجه حالات سلبية نتيجة الجهل بتعاليم الإسلام قبل أي شيء آخر. ولم تكن الأحوال وردية طوال قرون من العيش المشترك بين المسلمين وأهل الكتاب، بل مرّ هذا العيش بسوء فهم وتفاهم وصراع مصالح أدى في أحيان كثيرة إلى عسف وعجز عن التفاهم وتقديم المصلحة العابرة على أصول للعيش أرستها تعاليم الإسلام بوضوح منذ انطلاقة الرسالة.

ويتعرف المسيحي العربي على الإسلام من خلال الاحتكاك اليومي بمواطنيه المسلمين فهو يتكلم مثلهم اللغة العربية، لغة القرآن، وينتمي إلى العرب أهل النبي ومهد الإسلام.

ويذكر فارس يواكيم في مقدمة كتابه “الإسلام في شعر المسيحيين” أن أدباء عرباً مسيحيين صدّروا كتبهم بالبسملة، منهم ناصيف اليازجي في كتابه “العرف الطيب في شرح ديوان أبو الطيب” والخوري يوسف عون لدى نشره ترجمته للإنجيل.

وقد تبلورت النهضة العربية الحديثة، بحفظ اللغة العربية والدفاع عنها وتطويرها لحمل موجات الجديد في العالم، وكذلك بمواجهة حملة التتريك المستجدّة التي اعتمدتها جماعة الاتحاد والترقي التي سيطرت على حكم الدولة العثمانية وكبحت نزعات التوحيد القائمة على مساواة الترك بالأقوام الأخرى ومنهم العرب.

كتب جبران خليل جبران في هذا الشأن: “أنا لبناني ولي فخر بذلك، ولست بعثماني ولي فخر في ذلك أيضاً. أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكنّي أهوى النبي العربي وأكبّر اسمه وأحبّ مجد الإسلام وأخشى زواله. أنا أجلّ القرآن ولكني أزدري من يتخذ القرآن وسيلة لإحباط مساعي المسلمين، كما أنني أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للتحكّم برقاب المسيحيين. خذوها يا مسلمون كلمة من مسيحي أسكن يسوع في شطر من حشاشته ومحمداً في الشطر الآخر: إن لم يتغلّب الإسلام على الدولة العثمانية فسوف تتغلب أمم الإفرنج على الإسلام.

بهذا الموقف وما يماثله رفض الأدباء المسيحيون الاحتلال العثماني لبلادهم. وبانتمائهم إلى العروبة الجامعة والتزامهم بها، رفضوا الاستعمار الأجنبي بكل جنسياته، فرنسية كانت أم بريطانية، فالخلاف مع العثماني ليس لكونه مسلماً بل لأنه سلطة محتلة.

ولم تخلُ كتابات الأدباء المسيحيين العرب من إشارات إيجابية إلى الأماكن الإسلامية المقدّسة والنبي العربي الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فمن القصائد المعنية بذلك، ما كتب اللبناني سعيد عقل ونشره في ديوانه “كما الأعمدة”:

غنيت مكة أهلها الصيدا

والعيد يملأ أضلعي عيدا

فرحوا، فلألأ تحت كل سما

بيت على بيت الهدى زيدا

وعلى اسم رب العالمين علا

بنيانهم كالشهب ممدودا

يا قارئ القرآن صلّ لهم،

أهلي، هناك، وطيّب البيدا

مَنْ راكعٌ ويداه آنستا

أن ليس يبقى الباب موصودا

أنا أينما صلى الأنام رأت

عيني السماء تفتحت جودا

لو رملة هتفت بمبدعها

شجواً، لكنتُ لشجوها عودا

ضجّ الحجيج هناك فاشتبكي

بفمي هنا يا وُرقُ تغريدا

وأعزَّ ربي الناس كلهم

بيضاً فلا فرقت أو سودا

لا قفرةٌ إلا وتُخصبها،

إلاّ ويعطي العطر، لا عُودا

الأرض، ربّي، وردةٌ وُعدت

بك أنتَ تقطف، فاروِ موعودا

وجمال وجهك لا يزال رجا

يرجى، وكلُّ سواه مردودا

ومن مطولة في مدح النبي كتبها الشاعر السوري في المهجر الأرجنتيني الياس قنصل (ولد في يبرود- سورية وتوفي في بوينس آيرس- الأرجنتين):

إني ذكرتك يا محمد ناشراً

روح الأخوّة في بني الإنسان

يعلو بلال العبد أشرف قبة

ليذيع منها أشرف الألحان

حقّ المواهب أن يقرر أهلُها

لا فرق في الأجناس والألوان

والحكم للأعمال: فاسعَ بغيرة

ترجح بفضلك كفة الميزان

وذكرت ما كتب الفرنج وما بدا

من حكمهم في سائر البلدان

قالوا التساوي وادّعوه بينما

أنيابهم في أضلع الحملان

فعرفت صدقك حين شمت نفاقُهم

ما الفحم مثل الماسِ باللمعان

إني ذكرتك يا محمد مقابلاً

أسراك: أسرى الشك والعصيان

لم يظفروا بك مثلما رغبوا ولو

ظفروا لجدّ الحقد بالغليان

وظفرتَ أنتَ فلم تشأ تجريمهم

أو رميهم بمعرة وهوانِ

ما كان صفحك صفح واهٍ خائف

بل كان صفح القادر المحسانِ

بعث الرميم عجيبة ما مثلها

إلاّ نبالة ذلك الغفران.

ويلاحظ أن الغالبية الساحقة من شعر المسيحيين العرب في النبي الأكرم كانت لشعراء من لبنان وسائر المشرق ومن مصر والسودان حيث مواطنون يدينون بالمسيحية، لذلك لا توجد أشعار في هذا الموضوع صادرة عن بلدان أخرى في شمال أفريقيا وغربها. وهذا يفتح قضية شغلت النخبة العربية في ما يتعلق بالموقف من الحكم العثماني الذي كان يسيطر على معظم العالم العربي وصولاً إلى آخر الجزائر وقسم من المغرب، حيث لم يستطع العثمانيون السيطرة تماماً وأن يصلوا إلى شواطئ المحيط الأطلسي.

كانت مواقف أهل المشرق تتخذ شيئاً فشيئاً طابعاً سلبياً تجاه الحكم في إسطنبول عندما بدأ يضعف وينسحب من البلدان الأوروبية التي كان يحتلها، فانصرف إلى ممارسة الشدة والعنف على المناطق العربية التي كان يسيطر عليها، وبدأ العثمانيون منذ أواخر القرن التاسع عشر يغلّبون الطابع التركي على حكمهم، ووصل الأمر في عهد جماعة الاتحاد والترقي في مطلع القرن العشرين إلى إعلان نزعة التتريك والتعامل مع المواطنين العرب باعتبارهم درجة ثانية بعد الأتراك، بل أن أجهزة الحكم بدأت تنظر إلى العرب نظرة التخوين والتشكيك في الولاء، خصوصاً مع الضعف المتزايد في الإدارة العثمانية والانتصارات التي حققتها الدول الأوروبية التي امتد نفوذها بشكل واضح إلى لبنان وبلاد الشام ومصر، وصولاً إلى احتلال أجزاء متعددة من شمال أفريقيا حين استعمر الفرنسيون الجزائر وتونس والإيطاليون ليبيا والإسبان مناطق من المغرب بمشاركة من فرنسا لاحقاً التي سيطرت على مناطق واسعة وأدخلتها في استعمارها.

هكذا اتخذ النضال الوطني التحرري في المشرق العروبة شعاراً له ضد نزعة التتريك، واندرجت النخب المشرقية في سياق جمعيات “العربية الفتاة” في مواجهة “تركيا الفتاة” المعبّرة عن نزعة التتريك والتي ما لبثت أن سيطرت على الحكم في إسطنبول فأصبح السلطان مجرد صورة بلا تأثير يذكر.

ولاحق العثمانيون النُّخب العربية المشرقية فسُجن عدد كبير من طالبي الاستقلال ودُفع كثيرون إلى الهجرة نحو أوروبا وأميركا، وكذلك نحو مصر التي لجأ إليها عدد كبير من المثقفين “الشوام” الذين ناضلوا بمؤلفاتهم وجمعياتهم وصحفهم ذات التأثير الواسع.

هذه الهجرة أو هذا اللجوء بدأ فعلاً مع انسحاب جيش إبراهيم باشا من بلاد الشام التي احتل قسماً كبيراً منها لمدة عشر سنوات (1830- 1840) وانسحب معه لبنانيون وسوريون كانوا مقرّبين من جيشه خوف انتقام العثمانيين، وشيئاً فشيئاً أصبحت دمياط والقاهرة، ثم الإسكندرية لاحقاً، مقصداً لقطاع عريض من الشوام، خصوصاً من نخبهم، إذ رأوا في مصر متنفّساً إنسانياً، واقتصادياً بالطبع، وعمل عدد كبير من هؤلاء في الشأن السياسي الضاغط على الاستبداد العثماني ضد أهلهم في لبنان وسورية. وشكّلت مصر مجالاً رحباً لعيش هؤلاء حيث لا نزاعات قبلية أو طائفية مؤثرة، وحيث النظام مستتب والحرية متاحة والانفتاح الثقافي متوفّر في بلد بدأ يشكل مختبر الحداثة العربية الأول في تلك المرحلة.

لكن هذا لم يمنع أصواتاً تهاجم نشاط الشوام في مصر وأخرى تدافع عنهم فأصدر رياض باشا سنة 1890 قراراً بوقف توظيفهم في مؤسسات الدولة المصرية لكنه عمد لاحقاً إلى تخفيف القرار والسماح بتوظيف من أقام في مصر 15 عاماً فأكثر. وهنا عمد بعض أصحاب الصحف الشوام إلى الحصول على جنسيات أجنبية، خصوصاً فرنسية، أمّنت لهم حصانة وحماية.

واستمر الصراع بين الشوام والسلطنة العثمانية حتى نهاية تلك السلطنة في الحرب العالمية الأولى، لكن هذا لم يمنع وجود الرأي الآخر لدى النُّخب الشامية، فبرز أحمد فارس الشدياق الذي أوصله تأييد السلطنة إلى إصدار جريدته “الجوائب” من إسطنبول، فضلاً عن بروز شخصيات تقلّدت مناصب في إسطنبول لاحقاً مثل سليمان البستاني النائب عن ولاية بيروت وتولى وزارة التجارة والزراعة والمناجم، وهو مثقف بارز أصدر “دائرة المعارف” ونقل إلياذة هوميروس شعراً إلى العربية، ومثل سليم ملحمة حاكم ولايات عثمانية في أوروبا الشرقية وخليل غانم أحد واضعي الدستور العثماني مع مدحت باشا، كما نذكر نجيب ملحمة (شقيق سليم) الصحافي المقرّب من السلطان عبدالحميد على رغم أن هذا السلطان كان محل غضب الشوام والكثيرين من رعايا الدولة العثمانية.

بذلك تبدو الخريطة السياسية في صورة غلبة معارضي السلطنة في بلاد الشام، وصراع بين المؤيدين والمعارضين في مصر التي انفصلت عن السلطة شيئاً فشيئاً منذ انسحاب جيشها الذي احتل لفترة مساحات واسعة من بلاد الشام تلك، لكن التأييد الخالص بقي في بلاد شمال أفريقيا التي احتلها الفرنسيون والإسبان والإيطاليون، فكان تأييد السلطنة رمزاً من رموز مقاومة الاحتلال الأوروبي وهو اتخذ طابعاً إسلامياً لأن الإسلام هو ديانة أهل تلك البلاد المحتلة. وبين العروبة الجامعة بين وطنيي بلاد الشام والنزعة المصرية الغالبة على وطنيي مصر والاتجاه الإسلامي المسيطر بشكل طبيعي على وطنيي شمال أفريقيا، يبدو فارق المزاج بين النزعات الوطنية العربية، ونستطيع تبيّن ملامحه حتى في أيامنا الحاضرة بعد الاستقلال وانسحاب المستعمرين.

أخيراً لا بد من إشارة إلى عمل فريد من نوعه في سياق إشعار المسيحيين في موضوع الإسلام ورسوله الكريم، هو رباعيات للشاعر اللبناني حليم دموس (1888- 1957) كتبها مستوحياً سُوَر القرآن الكريم وبلغ عددها 114 رباعية. وقد ولد دموس في زحلة وتوفي في بيروت وهاجر بضع سنوات إلى البرازيل وعمل وأقام في دمشق حتى العام 1932، كما زار فلسطين ومصر والأردن والعراق. وأنشأ دموس في بيروت جريدة “الأقلام” الأسبوعية لمدة ثلاث سنوات وكتب في جريدة “الاتحاد اللبناني”. تميّز شعره فضلاً عن “الرباعيات” بمدائح للإسلام والرسول وبتأمّلات روحية ودعوات إلى الوحدة الوطنية، وفي العام 1943 اعتنق أفكار الدكتور داهش (اسمه الحقيقي سليم موسى العشي) وانصرف إلى صياغة مؤلفاته شعراً موزوناً مقفّى واعتبرها سبيلاً إلى وحدة الأديان على مبدأ العدالة الإلهية، قائلاً:

وليس كالعلم بين الناس من صلة

تدني السلام وتقصي كل عدوان

فلا محمد بالتفريق قال ولا

عيسى بن مريم أو موسى بن عمران

فقل لمن أفسدوا في الشرق واختلفوا

وفرّقوا بين أديان وأديان:

لا فرق بين بوذي يعيش به

ومسلم ويهودي ونصراني

هاجس المواطنة وتعايش الأديان والحضارة العربية الجامعة هو محرّك شعرية حليم دموس:

أنا كيفما سرت أرى العروبة قبلتي

وبني العروبة منيتي ومرامي

إخوان قرآن بشير هداية

ورفاق إنجيل رسول سلام

وقد تضمّن ديوانه “يقظة الروح” قصيدة قائمة على رباعيات، وهو استوحاها من القرآن الكريم، فمن سورة النساء استوحى:

الله أوصى بالنساء

والعادلون لهم جزاء

لكن إذا زوجٌ أساء

فله عذاب الخاسرين

واستوحى من سورة التوبة:

يا من يعيش ليهتدي

تبْ توبة المتعبّد

وإذا قضيت ففي غدٍ

تحيا حياة الخالدين

ومن سور أخرى استوحى:

هلاّ أتاك حديث هود

وحديث نوح أو ثمود

ذهبوا كما ذهب الجدود

والله يجزي المحسنين

 

والرعد في القرآن جاء

تسبيح خلاّق السماء

وبه جنان الأنقياء

والنار عقبى الكافرين

 

والنحل في جنّاتها

والطير في وكناتها

فاسمع صدى آياتها

واسلك سبيل المهتدين

شارك المقال