“أبو جهاد”… مهندس الانتفاضة ومخطط العمليات الفدائية

زياد سامي عيتاني

الشهيد خليل الوزير “أبو جهاد” أحد أبرز مؤسسي حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، وعقلها العسكري المخطط للعمليات الفدائية، الذي أرهق جنرالات العدو الاسرائيلي، حلت ذكرى ميلاده الـ 87 يوم 10 تشرين الأول 1935، وما زال يحتل وجدان كل من تابع مسيرته النضالية الكفاحية، التي بدأت مبكراً منذ أن كان تلميذاً في مدرسة “فلسطين الثانوية” في غزة، عندما إنتخب قائداً للحركة الطلابية فيها، إذ كان يشكل بمبادراته المستقلة “خلايا” من رفاقه للعمل الوطني، التي نفذت خلال هذه المرحلة عدداً من الهجمات على أهداف إسرائيلية في المناطق المحيطة بقطاع غزة باشرافه مباشرة.

وعلى الرغم من أنه من مؤسسي حركة “فتح” إلى جانب الرئيس الراحل ياسر عرفات “أبو عمار” (الذي تعرف إليه في العام 1954 أثناء إحدى زيارات عرفات إلى غزة كصحافي شاب، حين كان خليل الوزير مسؤولاً عن تحرير مجلة “فلسطيننا” الطلابية)، إلا أن بدايته كانت مع تنظيم “الاخوان المسلمين” الذي عيّن أميناً لسر مكتبه في غزة، قبل أن يختلف مع “الاخوان”، وتركهم لأنه طالبهم بتبني شعار “فلسطين أولاً” قولاً وفعلاً، لكنهم رفضوا تبني وجهة نظره بإعتماد الكفاح المسلح.

وبعد تركه “الاخوان” شكل أول “حلقة” مسلحة في العام 1954، كانت تنفذ عمليات عسكرية ضد الأهداف الاسرائيلية على خطوط الهدنة، وكان الفدائيون الذين ينظمهم “أبو جهاد” يزرعون الألغام والمتفجرات على طريق دوريات الجيش الإسرائيلي.

إرتبط الشهيد “أبو جهاد” بعلاقات شخصية قوية مع المقاتلين والثوار، ونفذ عمليات فدائية منذ صباه، وخطط لعدد كبير من العمليات العسكرية المهمة والمتميزة ضد الاحتلال الإسرائيلي وقواته.

من الجزائر خطط لنسف أنابيب المياه الاسرائيلية:

إلتقى ياسر عرفات مجدداً في الكويت وشارك معه في إجتماعات تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني خلال العامين 1957 و1958.

سافر مع ياسر عرفات في العام 1963 إلى الجزائر، حيث تم تأسيس أول مكتب لحركة “فتح”، وتولى جمال عرفات مسؤوليته ليعقبه أبو جهاد بعد ذلك في نهاية 1963.

نجح خلال توليه مسؤولية مكتب “فتح” في الجزائر في تعزيز العلاقات مع الحكومة الجزائرية، فحصل على موافقتها على قبول آلاف الطلاب الفلسطينيين في جامعات الجزائر، وعلى مئات البعثات الطلابية وعلى السماح بالتدريب العسكري لطلاب فلسطينين في الكلية الحربية الجزائرية. وعقدت في الجزائر أول صفقة عسكرية للثورة.

وخطط أبو جهاد من الجزائر لعملية نسف خط أنابيب المياه (نفق عيلبون) ليلة الأول من كانون الثاني/يناير 1965، والتي اعتمدت تاريخاً لانطلاقة الكفاح المسلح للثورة الفلسطينية.

الاعتقال مع “أبو عمار” في سوريا والانتقال إلى لبنان:

غادر “أبو جهاد” الجزائر في العام 1965 إلى دمشق حيث أقام مقر القيادة العسكرية لقوات الثورة الفلسطينية، وكلف بالعلاقات مع الخلايا الفدائية داخل فلسطين.

إعتقل مع ياسر عرفات وعشرة آخرين من مناضلي “فتح” في دمشق في شباط 1966 بعد مقتل يوسف عرابي وهو بعثي فلسطيني كان ضابطاً في الجيش السوري، ومحمد حشمة وهو فلسطيني ينتمي إلى حزب “البعث” (الجناح العراقي).

إنتقل بعد ذلك مع رفاقه في العام 1971 إلى لبنان حيث إنخرط في قيادة عمليات إعادة البناء وتدريب المقاتلين والتحضير للعمليات الفدائية داخل الأرض المحتلة.

بعد إغتيال إسرائيل كمال عدوان في العام 1973 في بيروت، تولى أبو جهاد مسؤولية القطاع الغربي في الأرض المحتلة في “فتح”، وإستمر متحملاً تلك المسؤولية حتى استشهاده.

مخطط العمليات:

خلال توليه مسؤولية القطاع الغربي خطط لعدد كبير من العمليات الفدائية وأشرف على تنفيذها، ومنها عملية فندق “سافوي” في تل أبيب وعملية إنفجار الشاحنة المفخخة في القدس في العام 1975، عملية قتل البرت ليفي كبير خبراء المتفجرات الاسرائيليين ومساعده في نابلس عام 1976، عملية الساحل “الشاطئ” بقيادة دلال المغربي في العام 1978، عملية قصف ميناء إيلات عام 1979، قصف المستوطنات الشمالية بالكاتيوشا عام 1981، أسر 8 جنود إسرائيليين في لبنان ومبادلتهم بنحو 4500 أسير لبناني وفلسطيني في جنوب لبنان ونحو 100 من أسرى الأرض المحتلة، وعملية إقتحام وتفجير مقر الحاكم العسكري الاسرائيلي في صور في العام 1982 وعملية مفاعل ديمونة عام 1988.

الخروج من بيروت إلى سوريا والعراق:

بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، توجه “أبو جهاد” إلى سوريا للإقامة فيها، وواصل التردد على لبنان حيث كانت تتواجد وحدات من قوات الثورة الفلسطينية، إلى أن قررت السلطات السورية منعه من دخول الأراضي السورية ولبنان في صيف 1983 في الفترة التي كان المنشقون يحاولون خلالها السيطرة على حركة “فتح”. لينتقل بعد ذلك مع ياسر عرفات إلى تونس، حيث عُيّن، سنة 1984، رئيساً للجانب الفلسطيني في اللجنة الفلسطينية – الأردنية المشتركة لدعم صمود الأرض المحتلة.

وفي العام 1986 إنتقل خليل الوزير إلى بغداد، بعد فشل خطة العمل المشترك الفلسطينية – الأردنية التي كان عرفات والملك حسين قد إتفقا بشأنها في شباط 1985.

من مقره الجديد في بغداد واصل “أبو جهاد” عمله كنائب للقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، وكمسؤول عن الكفاح المسلح داخل الأرض المحتلة، وقاد وفد “فتح” في جلسات الحوار الوطني، التي جرت في عواصم عدة، ونجح في التوصل إلى إتفاق أتاح عقد الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني “دورة الوحدة الوطنية ” في الجزائر في العام 1987.

مهندس الانتفاضة الأولى:

كان خليل الوزير أحد أبرز مهندسي الانتفاضة الشعبية الأولى التي إندلعت في كانون الأول/ ديسمبر 1987، وشارك في توجيهها ودعمها حتى ساعة إستشهاده.

ففور إندلاع الانتفاضة الشعبية في الأراضي المحتلة تولى مسؤولية دعمها وإسنادها وتنسيق فعالياتها بالتشاور مع القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة “السرية” في الأرض المحتلة، حيث كان فعلاً وعملاً عقل الانتفاضة وجنرالها الذي استطاع أن يقيم شبكات وقنوات وإتصالات منتظمة كالدورة الدموية، وليؤسس لدستور الانتفاضة والمقاومة الشعبية في 24 نقطة قبل استشهاده.

الاغتيال على يد “الموساد”:

لم تكن سلطات الاحتلال الاسرائيلي تجهل الدور الكبير لأبي جهاد في إندلاع الانتفاضة وتوجيهها، بحيث ورد في تحليل صحافي أميركي أن القرار بقتله يعود لكونه أحد الأوائل الذين نظموا الانتفاضة. وكان يجري مكالمات هاتفية مع أشخاص في الأراضي المحتلة عن طريق جنيف، ليضلل عملية التنصت الاسرائيلي، واعتبره الاسرائيليون قائداً خطراً، فقرروا القضاء عليه قبل أن يوصل الانتفاضة إلى مرحلتها الثالثة، وهي إقامة الدولة أو الحكومة في المنفى.

كان أبو جهاد يتردد باستمرار على تونس حيث مقر المنظمة وإقامة أسرته ويمكث فيها بضعة ايام فقط، لكنه مكث 15 يوماً في الزيارة الأخيرة له في ربيع 1988، وكأنه ينتظر قدره أن يلتحق بقافلة شهداء الثورة الفلسطينية، فقد قامت وحدة “سييرت متكال” العسكرية الاسرائيلية التابعة لـ”الموساد”، بقيادة المقدم موشيه بوغي يعلون، الذي أصبح لاحقاً رئيس الأركان ثم وزير الدفاع، باغتياله في منزله في حي سيدي بو سعيد في تونس في 16 نيسان/أبريل 1988، إذ إغتالته فرقة “كوماندوس” إسرائيلية حين فاجأته وهو يعمل في منزله، مطلقة عليه نحو 70 طلقة فاستشهد فوراً.

وشاركت في عملية إغتياله طائرتان عموديتان و4 سفن حربية وغواصتان وزوارق مطاطية لإنزال نحو 20 عنصراً من وحدة الاغتيالات الاسرائيلية، على شاطئ الرواد قرب ميناء قرطاجة في تونس.

فبعد مجيئه إلى بيته كانت إتصالات عملاء “الموساد” على الأرض تنقل الأخبار، وتوجهت هذه القوة الكبيرة إلى منزله فقتلت الحراس، وتوجهت إلى غرفته، فسمع ضجة في المنزل خلال إنشغاله في خط كلماته الأخيرة على ورق كعادته، وكان يوجهها الى قادة الانتفاضة، فذهب وهو يرفع مسدسه ليستطلع الأمر، فإذا بسبعين رصاصة تخترق جسده، ويصبح في لحظات في عداد الشهداء ليتوج أميراً لشهداء فلسطين.

سقط “أبو جهاد” شهيداً وهو واقف بعد أن أطلق الرصاص من مسدسه في معركة غير متكافئة، لكنه أبى إلا أن يموت واقفاً كالأشجار.

تذكر زوجته إنتصار الوزير “أم جهاد” أن آخر كلمات خطها بيده هي: “لا صوت يعلو فوق صوت الإنتفاضة”…

الشهيد “أبو جهاد” كان يجسد عقل الثورة، وعنوان المقاومة، وحكاية الانطلاقة، ومعنى الانتفاضة، ورمز الاستشهاد والبطولة، إلى أن تحول إلى أيقونة وطن تُستلْهَم منها العزة، والشموخ، والقوة.

شارك المقال