الترسيم وثورة تشرين!

اكرم البني
اكرم البني

لعله حظ عاثر أو صدفة سيئة أن تتزامن الذكرى الثالثة لانطلاق ثورة تشرين مع التوصل الى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فالثورة التي أدركت بعفويتها كيف يستخدم بعض أطراف النخبة الحاكمة مسألة المواجهة مع إسرائيل كشماعة لإبقاء البلاد تحت سيطرته، ورفعت الصوت عالياً للمطالبة بوضع حد لتفلت سلاح “حزب الله” وإخضاعه لسلطة الدولة، هي أكثر من يتضرر اليوم من إبرام هذا الاتفاق حين يجيّر لصالح التركيبة السياسية القائمة وفي مقدمها “حزب الله” ومن ورائه محور ايران والممانعة، ولنقل حين تسعى هذه الأطراف الى قطف ثمار الافادة من الثروة النفطية والغازية الموجودة تحت المياه اللبنانية، ربطاً بترويج الوعود بوضع مئات المليارات من الدولارات التي يدرها هذا الترسيم، لمواجهة تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية، ولا يغيّر هذه الحقيقة اعتراض البعض على محتوى اتفاق الترسيم وأنه تنازل يضر بالمصلحة الوطنية وحقوق اللبنانيين، أو لكونه يحتوي ضمناً على توافق الطرفين، حكومة تل أبيب والسلطة اللبنانية، على تأمين الحماية المتبادلة لبنوده وما تستتبعها من مشاريع واستثمارات.

صحيح أن لا أحد يشكك بالدوافع الصادقة لثورة اللبنانيين ومشروعية الأهداف والشعارات التي رفعتها، وصحيح أن الثوار خلصوا قبل غيرهم إلى تحديد الأخطاء التي ارتكبت وأخمدت زخم ثورتهم وخاصة ضعف توحيد جهودهم وخطابهم وخططهم، وصحيح أن الثورة أثمرت اختراقاً فريداً في التقاليد السياسية القائمة ونجحت في إيصال شخصيات إلى المجلس النيابي ترتبط بمبادئها وأمينة لشعاراتها، وإن بدرجات متفاوتة، لكن الصحيح أيضاً أن البنية العميقة للتركيبة السياسية في لبنان كانت السد المنيع أمام تقدم الثورة كي تقطف ثمارها المستحقة، أوضحها العمق المذهبي والطائفي، ليبدو المشهد كأنه يتغذى ويتقوى من شبكة معقدة من المصالح الاجتماعية والاقتصادية التي تتمركز داخل مجموعات سياسية طائفية ومذهبية، لا تقوم من دون توسل هيمنة مطلقة من أهم شروطها الغاء الرأي الآخر، وتغييب الهم الوطني العام والانحدار بالصراعات والخلافات إلى ذاك المستوى من الشحن الأيديولوجي المفرط والفائض باعتبارات سياسية متعالية عن مصالح اللبنانيين، الأمر الذي يعني فيما يعنيه الاحجام عن منح الدولة ومؤسساتها دورها المركزي والعمومي في إدارة المجتمع، ويعني أيضاً الخضوع لابتزازات طائفية ومذهبية متبادلة قبل تقديم التنازلات لصالح الحفاظ على روح التعايش والتوافق، والأسوأ ربط لبنان أو بعض مكوناته بمشاريع خارجية لا تمت الى الوطنية بصلة، بما هو تفريط بالوضع الداخلي لصالح خيارات غريبة عن مصالح غالبية اللبنانيين وهمومها، خاصة وأن الرغبة في التغيير لم تنجح، راهناً، في كسب أو تحييد أبناء الطائفة الشيعية، التي لا تزال غالبيتها وللأسف تتحسب من الانفكاك عن “حزب الله” وحركة “أمل”، مرة أولى، لأن أكاذيب ذلك الثنائي لا تزال تنطلي عليها، لاسيما لجهة إشاعة مخاوف مغرضة بأن أي تغيير هو محاولة للنيل من نفوذ الطائفة الشيعية وما جنته من مكاسب، أو غرضه الثأر من “الانتصارات” التي حققها محور المقاومة والممانعة، ومرة ثانية، بمحاولة فرض الإذعان المذهبي، بأن كل شيعي ملتزم بتكليف شرعي له أولوية وقدسية، قبل الجوع والحرية والوطن، ومرة ثالثة، بالعودة الى الديماغوجية المعهودة والعزف على وتر المؤامرة واتهام أي معارض للنخبة الفاسدة بالخيانة والعمالة، فكيف إن كان ينتمي إلى الطائفة الشيعية؟

ويبقى الأسوأ في المشهد اللبناني هو “حزب الله”، الحزب الذي يلف حوله غالبية الشيعة وعبره استمدت هذه الطائفة حضورها الأكثر استقلالية بعدما كانت ملحقة تاريخياً بالكتل السياسية والطائفية الأخرى… الحزب الذي يشكل موضوعياً وذاتياً امتداداً أو استطالة سياسية لمشاريع إيران الإقليمية… الحزب الذي لا تزال تفتنه عقلية العنف ومنهج فرض الرأي بأسلوب القوة والتهديد كما دلت على ذلك ممارساته في ترهيب المكونات الأخرى واغتيال أهم رموزها، وأيضاً الكثير من الشعارات وعبارات التحدي والتصريحات التي تعيد قيادته تكرارها… والأهم، الحزب الذي أصبح له الدور الأول في التركيبة السياسية اللبنانية، من خلال استفراده بحمل السلاح، ودرجة الاستئثار التي حققها في السيطرة على أهم مؤسسات الدولة، عدا عن فرضه مناخاً مزمناً من الاستنفار بدعوى مواجهة إسرائيل، ويبدو غرضه الحقيقي تشجيع المزيد من الاستنقاع في أتون الملاذات المذهبية، وتسويغ تغول الزعماء الطائفيين في تنافسهم الدنيء على الحصص والمفاسد، وحمايتهم من أية مساءلة ومحاسبة جديتين، بما في ذلك اشغال المجتمع عن خططه التنموية ومهمة بناء وطن ودولة يعتز بهما.

ومثلما تحول “حزب الله” بعد “انتصاره الإلهي” وخنوعه لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم (1701) من حزب مناهض للاحتلال الإسرائيلي إلى حزب يحرص على تنفيذ القرار ويمنع تجاوزه، والأهم إلى حزب منازع على حصص السلطة اللبنانية ومواقع النفوذ الداخلي، فانقلب ليحارب شريحة كبيرة من اللبنانيين ويستخدم وسائل القوة والتهديد لفرض مواقفه وآرائه في المجتمع والدولة! يبدو أنه نفسه اليوم، الذي يتوسل اتفاق الترسيم، للتحرر من مسؤوليته عما صارت اليه أوضاع الشعب اللبناني ولتعزيز سيطرته على مؤسسات الدولة اللبنانية، مستعيناً بحلفاء “المائدة” ومعتمداً لغة الإقصاء والتهديد والوعيد، كوسيلة رئيسة لفرض مواقفه على حساب سيادة الدولة اللبنانية وحرية مؤسساتها.

والحال، بعد أن نجحت السلطة اللبنانية القائمة في تشتيت ثورة اللبنانيين والتغول على حقوقهم ولنقل تجويعهم وتشريدهم، وتالياً نشر اليأس والإحباط والشعور باللاجدوى كما الأحقاد والكراهية بين صفوفهم، تحاول اليوم، واستناداً إلى الوعود بتوظيف المردود المالي لاتفاق الترسيم بينها وبين إسرائيل، إعادة بناء الاصطفافات والمواقف، ومنح ما كان يسمى قوى المقاومة والممانعة والدائرين في فلكها فرصة قوية للاستمرار في هجومها للنيل من دعاة التغيير ولإضعاف دور الدولة وتهميش مؤسساتها، لكن هذه المرة، من دون شماعة مواجهة إسرائيل، وهو الأمر الذي يمكن للبنانيين العمل عليه في معالجة أزمتهم المتراكبة، والتي باتت لها عناوين متعددة ومترابطة في آن، منها انتخاب رئيس للجمهورية، ومنها ضرورة التحرر من الحسابات الاقليمية ودوائر تنازع السيطرة والنفوذ، ومنها احتكار السلاح ورفض إقامة دويلات خاصة إلى جانب الدولة، بل منح هذه الأخيرة ومؤسساتها دورها المركزي والعمومي لادارة المجتمع وضمان مسار تطوره السلمي وتقدمه الديموقراطي.

شارك المقال