خلافات “إتحاد جمعيّات العائلات” على “صنوبر” بيروت!

زياد سامي عيتاني

لم يكن مستغرباً ولا مفاجئاً أن تطفح الخلافات العبثية على “اللاشيء” داخل “إتحاد جمعيّات العائلات البيروتية” على السطح، وتنشر على “صنوبر بيروت”، من جراء تركيبته الهشّة المترهلة التي أصيبت بشيخوخة مبكّرة، وإنعدام الإنسجام بين أعضائه، الذين في غالبيتهم يفتقدون ثقافة الحوار والنقاش الموضوعي والمسؤول، والقدرة على إتخاذ قرارات وفقاً للقواعد الديموقراطية، طالما أن الإجماع مستحيل بفعل مراكز القوى الداخلية، التي تتصارع ليس من أجل بيروت وعائلاتها، بل من أجل الإستئثار والتفرّد بما يصدر عنه من مواقف ومقررات فارغة من أيّ مضمون ذي وزن!.

ما وصل إليه الإتحاد، كان متوقعاً حتى قبل إنتخاب هيئته الإدارية الحالية، ويوم التئام الهيئة العامة في أحد مطاعم العاصمة الفخمة والراقية المعزول عن أبنائها، للتجديد للهيئة الإدارية (مع بعض الرتوش و”البوتوكس” التجميلي بإدخال أعضاء جدد للتمويه والتورية)، بحيث جرت الإنتخابات المزعومة بإنسيابية التعليب المعدّ مسبقاً، لتوزيع جوائز ترضية من مناصب وهمية وفارغة على بعض المحظيين، لإعادة إنتاج الإتحاد نفسه بكلّ خيباته وفشله وإخفاقاته ومصداقيته المهزوزة وتمثليه المفقود ودوره المعدوم.

فخلال تلك الإنتخابات، لم يطرح أيّ من المرشحين القدامى أو الجدد (باستثناء اللائحة الخاسرة) أيّ برنامج أو رؤية أو مشروع أو حتى عنواناً عاماً (من باب رفع العب)، حول كيفية النهوض بالإتحاد، وجعله متفاعلاً مع بيئته البيروتية، للخروج عن النمطية العدمية التي هو عليها.

لكنّ الأمانة تقتضي الاعتراف بأنّ أزمة الإتحاد، ليست أزمة طارئة أو مستحدثة، بل هي في جوهرها أزمة بنيويّة عميقة ومتشعّبة منذ تأسيسه عام ١٩٩٨، تبدأ من الوضع الداخلي لكلّ أسرة، مروراً بعدم إقدام غالبية الأسر البيروتية على تأسيس جمعيّاتٍ عائلية، والحصول على “علم وخبر” من وزارة الداخلية، الذي هو شرط لقبول عضويّتها في الإتحاد، وصولاً إلى نظام الاتحاد نفسه وهويّته وتركيبته ودوره.

فالمتتبع لمسار عمل هذا الإتحاد، لا يحتاجالى لعناء، كي يكتشف أنّه لم يكن يحاكي بيروت، وهواجسها، ويلامس همومها، ويعالج مشكلاتها ومعضلاتها المزمنة والمتراكمة، لكي يرتقي إلى قاعدة بيروتية جديّة وجذرية وحقيقية.

فإتحاد العائلات البيروتية عزل نفسه عن أبناء العاصمة (الغرباء في مدينتهم) المقيمين، والمغتربين والمغربين، والمهاجرين والمهجّرين، في ضواحيها، ونأى بنفسه عن بيروت المُغَرّبة عن تاريخها وجغرافيّتها ونسيجها الإجتماعي.

فالمواطن البيروتي لم يكن يرى فيه سوى مجرد حالة إستعراضية للتصفيق في المناسبات والولائم، والجلوس في الصفوف الأمامية، وإلتقاط الصور التذكارية، والعطاء الترويجي الإستعراضي المُذل (صناديق المواد الغذائية) لبعض العائلات “المستورة” خلال شهر رمضان المبارك (!) والتحوّل المفاجئ إلى “مكتب إنتخابي” خلال الإستحقاقات النيابية والبلدية، خلافاً لنظامه الداخلي، ومن دون العودة إلى جمعيّته العمومية للوقوف على رأيها.

بناءً عليه، لم يتمكن الإتحاد قط من أن يشكّل رافعة إجتماعية لبيروت ولعائلاتها، ولا أن يكون قيمة مضافة، أو مكملاً ومعززاً لدور الجمعيات البيروتية التاريخية العريقة والفاعلة بحيويّة كبيرة، مثل: “جمعيّة المقاصد الخيرية الإسلامية”، “مؤسسات الرعاية الإجتماعية”، “مؤسسات الدكتور محمد خالد الإجتماعية”، “جمعية العناية بالأم والطفل” وغيرها.

بل على العكس فإنّ الإتحاد تحوّل إلى عبء على بيروت، وكان سبباً في زيادة التشتّت والتشرذم اللذين تتخبّط بهما، لعجزه عن الإحاطة بجمع ورعاية وإحتضان العائلات والأسر وأبنائها ونسيجها الإجتماعي بكلّ مكوناته وشرائحه المتعدّدة، وجمعها ولمّ شملها، كإطار جامع ومنظّم وموجّه ومخطّط لها، وفقاً لمشروع إجتماعي شامل يلبي متطلبات أفرادها وإحتياجاتهم، ويمكّنهم من التغلّب على الظروف التي تحول دون تحقيق آمالهم وتطلعاتهم وطموحاتهم.

قد يقول قائل إنّ الهيئات الإدارية المتعاقبة للإتحاد، هي نتاج إنتخابات كانت تأخذ مداها الديموقراطي، والدليل على ذلك أنّ آخر إنتخابات جرت بين لائحتين متنافستين، مما شكّل ظاهرة إيجابية، كرّست مشهدية حضارية راقية في كيفية إنتاج قيادة جديدة للإتحاد.

قد يكون ذلك صحيحاً، بحيث لا أحد يشكّك في قانونية أيّ من إنتخابات الإتحاد، لأنّ المشكلة الجوهرية كما أسلفنا هي مشكلة بنيويّة تتعلّق بنظامه وهيكليته، اللذين يحتاجان إلى تدخّل جراحي، لإدخال تعديلات جوهرية عليهما، إذا خلصت النوايا، وتوافرت الرغبة الصادقة لإستنهاضه وتفعيله وإحداث نقلة نوعيّة في أدائه.

وحتى لا نبقى في إطار العموميات “البكائية” على واقع حال الإتحاد، فلا بدّ من الحريصين عليه، ولا شك هم الأكثرية، من أخد المبادرة الفورية لإطلاق ورشة عمل إنقاذية، وفقاً للتوجهات الآتية:

  1. أن تبادر الهيئة الإدارية الحالية بالإجماع إلى تشكيل هيئة من الكفاءات والنخب التي تتمتع بالمصداقية والكفاءة، وتحظى بتأييد شامل، من الإختصاصات المختلفة التي تتعلّق بعمل الإتحاد، لإعداد مشروع تحديثي وتطويري طموح، يتضمن تصوراً عميقاً لعمل الإتحاد، يبيّن أهدافه بصورة واضحة وصريحة، من دون أن تحتمل الإجتهاد والتأويل والتحايل، يتبع بمسودات النظامين الأساسي والداخلي للإتحاد والهيكلية الإدارية، وفقاً للتصوّر الموضوع.
  2. تقديم الهيئة الإدارية الحالية رئيساً وأعضاً وبالتوافق إستقالة جماعية، عقب تشكيل الهيئة المبيّنة في البند (1)، على أن تبقى في حالة تصريف الأعمال حتى انتهاء الهيئة من عملها، لدعوة الهيئة العامة الى مناقشة ما خلصت إليه الهيئة وإقراره.
  3. بعد إقرار تصوّر عمل الإتحاد ونظاميه الأساسي والداخلي وهيكليته الإدارية من قبل الهيئة العامة، يتمّ دعوتها مجدداً الى إنتخاب هيئة إدارية جديدة، إستناداً الى الأحكام القانونية المعدّلة.

وفي هذا السياق، لا بدّ للهيئة المكلفة من الأخذ في الإعتبار مجموعة أفكار جريئة ومتقدّمة، تكفل تحقيق النقلة النوعية للإتحاد، وتجعله أكثر شمولية في التمثيل، حتى يتمكّن فعلياً وعملياً على أرض الواقع من أن يكون إطاراً حاضناً وجامعاً لأوسع قدر ممكن من العائلات والأسر البيروتية، مع مراعاة تعدّد الشرائح المتنوّعة التي تشكّل النسيج الإجتماعي لبيروت الحضارة والتاريخ.

ومن الأفكار التي من المفترض تبنّيها، ليكون الإتحاد حاضناً وممثلاً على نطاق واسع ورحب للعائلات البيروتية على تنوعها:

أ. أن لا يقتصر الإنتساب الى الاتحاد حصراً على العائلات السنية.

ب. فتح المجال واسعاً أمام العائلات البيروتية المسيحية، والأرمنية، والشيعية، والدرزية للإنضام الى الإتحاد، وتمكينها من أخذ دورها كاملاً.

ج. الخروج من “عقدة” العائلات الكبرى والعريقة، والتعاطي مع جميع العائلات على حدّ سواء، على قاعدة المساواة، بعيداً عن أيّ شكل من أشكال التمييز.

د. إعتماد النسبية في إنتخابات الهيئة الإدارية، لتأمين صحة تمثيل جميع العائلات من مختلف الطوائف والمذاهب، والأحجام العددية.

ه. أن يحظى كلّ مرشح بتفويض من ثلثي أعضاء الهيئة العامة لجمعيّة عائلته.

و. تشجيع العائلات التي لم تؤسّس جمعيات خاصة بها، وحثها على أن تبادر الى ذلك، بهدف إنضمامها الى الإتحاد.

إذا كان قدر بيروت في هذه الظروف الإستثنائية بالغة الخطورة، والتحولات الجذرية التي تعيشها البلاد، أن تكون مستهدفة بصورة ممنهجة من الحاقدين عليها، فإنّه حري بمن يدّعي حرصه عليها، العمل على تحصينها وتوحيد صفوفها وحمايتها من كلّ غزوات الكراهية، وتشكيل حالة إستيعابية جامعة – توحيدية لكلّ مكونات المجتمع البيروتي التعدّدي وشرائحه، لتمكينها من إستعادة دورها الطليعي والريادي على الصعد كافة.

فهل إتحاد جمعيات العائلات البيروتية قادر على الإرتقاء إلى مستوى هذه المسؤولية، والترفّع عن الأنانيات والمصالح الضيقة، ليتحوّل إلى ورشة عمل فعلية دائمة، وإلى وسيلة ضغط قادرة على نهضة العاصمة وإعادتها كعاصمة ليس بالمفهوم الجغرافي للبنان وحسب، بل كعاصمة لقراره الوطني السيادي ببعده العربي، بكلّ مندرجاته السياسية والإقتصادية والإنمائية والنهضوية؟

شارك المقال