“الثمن السياسي” للترسيم… وضرورة عودة سعد الحريري!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

ما بعد الإتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني ليس كما قبله، ليس المنطق السياسي من يقول ذلك وحسب، بل منطق الأمور بالمطلق على إعتبار أن لا شيء على هذه الأرض بلا ثمن، لذا من البديهي القول بأن الحياة ليست جمعية خيرية توزع العطايا على الناس والدول كل حسب حاجته أو بقدر ما يتمنى، “فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غُلابا” كما يقول أمير الشعراء العرب أحمد شوقي، فكيف والحال هذه إذا كان المقصود الحياة السياسية تحديداً وفي بلد كلبنان أيضاً، وكان الحدث بأهمية حدث الترسيم الذي ما كان له أن يتم لولا تقاطع مصالح عدة أطراف متناقضة الهوى والهوية على خط واحد؟

إقليمياً يبدو أن “الصيد الثمين” الذي حصلت عليه إسرائيل من الصفقة، كان له ثمن قد يكون الأميركي “دفع” جزءاً منه – ربما – في العراق لصالح “الوسيط” الإيراني عبر إنتخاب رئيس للجمهورية وتعيين رئيس وزراء من الفريق الموالي لإيران، دولياً “الوسيط” – كي لا نقول السمسار الفرنسي – قبض الثمن عبر تلزيم التنقيب والحفر لشركة توتال “فخر” السياسة الفرنسية، “المايسترو” الأميركي أمَّن مصالح إسرائيل والغرب التي تصب عنده في النهاية. لبنان الذي هو صاحب الحق وتجري المفاوضات على مياهه، كان للأسف الشديد ونتيجة للظروف المعروفة التي وضعته فيها “العصابة الحاكمة”، الحلقة الأضعف في هذا التقاطع على الرغم من كل ما يحكى عن إنتصار مزعوم ومنسوب تارة الى العهد وتياره وصهره بهدف تعويمه، وتارة الى “حزب الله” ومسيَّراته وتهديداته بهدف التجييش والاستثمار. وبسبب هذه الظروف يمكن القول ان لبنان حصل على “أفضل الممكن” جراء هذا التقاطع، لكن هذا الأمر لا بد من أن يكون له ثمن سياسي داخلي نعرف من يطالب به أو سيقبضه، ولكن لا أحد يعرف – حتى الآن على الأقل – من سيدفعه، وما “العشاء شبه السري” الذي يبدو وكأنه دُبِّر بليل، وكان سيعقد في السفارة السويسرية التي هي في الحقيقة تشكل المساحة المشتركة التي تربط أميركا بإيران إلا مؤشراً إلى ما يخطط له البعض، والذي يبدو منه أن “إتفاق الطائف” هو المستهدف أقله بالتعديل، وهذا الأمر ليس بجديد على أية حال. فإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان الهدف منه أساساً هو إغتيال الطائف، وعندما إنقلب السحر على الساحر وخرج السوري بعد إنتفاضة الأرز، بان الوجه الحقيقي للبعض الذي كان يخفيه وراء قناع المقاومة ضد العدو الصهيوني، بينما هو في الحقيقة يمثل مشروع إنقلاب على الحل العربي في لبنان، في محاولة لإلحاقه بمحور الممانعة بقيادة النظام الإيراني. وما الأحداث والتطورات التي أعقبت إغتيال الرئيس الحريري، والتعطيل الذي مورس في وجه سعد الحريري والضغوط التي تعرض لها سياسياً وأمنياً وكذلك الغدر به درجة إحراجه فإخراجه، إلا الدليل الفاقع على هذا المشروع المعادي لمصالح الغالبية من الشعب اللبناني بدليل ما وصل إليه البلد من إنهيار.

اليوم، وفي ظل التطورات الدولية المتسارعة جراء الحرب في أوكرانيا التي تسببت بأزمة وقود للعالم الغربي، ونتج عنها توتر كبير في علاقات الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية جراء الخلاف على السياسة النفطية، تحاول إيران وأذرعها في المنطقة النفاذ من هذه الثغرة لتحقيق أهدافها، من هنا كان التهاود والتساهل في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، الذي ساهم فيه “حزب الله” بـ “وقوفه خلف الدولة” – كذا – وبمسيَّراته التي أغلب الظن أنها كانت للقول والتذكير بأن له حصة من هذا الترسيم أكثر منها محاولة للضغط على إسرائيل، على أمل أن تتم الصفقة ويقطف ثمارها الداخلية التي قد تكون وصاية جديدة “مقنعة”، إذا ما وجد أن تعديل الطائف أو إستبداله بعيد المنال في الوقت الحاضر، وأنه سيواجه برفض داخلي وعربي كبير كما بيّنت الردود التي أثارها كشف موضوع “العشاء السويسري”، وقد تكون هذه الوصاية مثلاً عبر محاولة فرض رئيس جمهورية جديد يكون “فوتوكوبي” عن الرئيس الحالي ولو تحت ستار التوافق، أو عبر الحصول بالتراضي على “التوقيع الثالث” وذلك عن طريق تكريس وزارة المالية للشيعة حصراً، خصوصاً في هذه الظروف لما لها من أهمية كبرى ولدورها المستقبلي في خطة التعافي الاقتصادي، والمفاوضات سواءً مع صندوق النقد الدولي أو غيره من المؤسسات العربية والدولية في حال إتفق على خطة إعادة الهيكلة.

لقد بات واضحاً الآن – أكثر من أي وقت – من سياق التطورات والتحركات أن المستهدف هو الدور العربي في لبنان بكل مكوناته، وعلى رأسها قاعدته الأساسية وهي الطائفة السنية التي حاولوا إلغاء دورها عبر الإغتيال الجسدي لرفيق الحريري، ومحاولة الإغتيال السياسي لسعد الحريري، لتبقى الطائفة بلا رأس – مع كامل الاحترام لفعالياتها ولدور دار الفتوى – إلا أن الزعامة السياسية شيء آخر. من هنا وبعد ثلاث سنوات من التخبط منذ 17 تشرين الأول 2019، تاريخ إستقالة سعد الحريري إستجابة للشارع و”قرفاً” من الممارسة السياسية للعهد وأولياء نعمته ما إستدعى بعدها تجميد نشاطه السياسي ورحيله عن لبنان، وفي ظل الفشل – نعم الفشل – في الإتفاق على مشروع بديل من قِبَل معارضي الحريري وتجربته، الذين ثبت بأن معارضتهم لم تكن أكثر من مزايدة، وعلى أبواب الاستحقاقات الكثيرة وأهمها إنتخاب رئيس جديد، بات من الضروري أن يُصار إلى السعي لعودة سعد الحريري للتباحث والتشاور في آفاق المرحلة المقبلة، والإتفاق على خطة عمل أقله لتقليل الخسائر وللحفاظ على وجه لبنان العربي ومصالحه، وذلك لن يتم إلا بتفهم ودعم عربيين بعيداً عن الحساسيات السابقة، ونقول للأخوة العرب المهتمين بالوضع اللبناني كفى مكابرة، فسعد الحريري هو العنوان والباب الذي منه تدخلون، لا نقول هذا تملقاً أو تزكية للرجل، لكنه الواقع الذي أكدته الأيام وعلى الجميع التعامل معه إذا كنا نريد الخير لهذا البلد والحفاظ عليه بالحد الأدنى على الأقل، وإلا فالخيار العربي هو من سيدفع الثمن، ثمن إتفاقية الترسيم وربما غيرها من الملفات التي قد تحملها التطورات في المقبل من الأيام، وهي تطورات متسارعة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها في ظل الوضع الدولي وتعقيداته.

شارك المقال