الرؤية الاستراتيجية لشطح: كيف ننقذ لبنان من ثروته النفطية؟

زياد سامي عيتاني

عنوانٌ، قد يبدو للوهلة الأولى مستجداً لمقال صحافي، يعكس المخاوف من جراء ما خفي من صفقات غير معلنة حيال الاتفاق بين لبنان والعدو الإسرائيلي برعاية أميركية، في ما خصّ ثروة لبنان المبهمة من الغاز.

لكنّه في الواقع، هو عنوان لدراسة عميقة وقيّمة وبالغة الأهمية، وضعها الوزير الشهيد محمد شطح قبل أشهر من اغتياله (27 كانون الأول 2013)، أي قبل 9 أعوام من التوصّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني الغاصب، والذي يحمل في طياته الكثير من الغموض والإلتباس!.

أهم ما تميّزت به رؤية الشهيد شطح، إضافة إلى طابعها الوطني المتجرّد والمنزّه عن كلّ ما يتصل بالواقع السياسي اللبناني، ومضمونها العلمي التخصّصي، أنّ “الأنسنة” تطفو عليها، لجهة اعتبار أنّ للشعب اللبناني حقاً مكتسباً ومشروعاً في الثروة النفطية، عارضاً آلية تكفل التوزيع العادل لها بين الدولة ومواطنيها، في سابقة إستثنائية من رجل إستثنائي، في جعل الشعب اللبناني شريكاً لدولته في واحدة من أهم ثرواتها الواعدة للمستقبل.

لذلك، وقبل الدخول في تفاصيل الرؤية، لا بدّ وعلى سبيل إنصاف من دفع حياته ثمناً لمواقفه، من الاعتراف له، ولو متأخراً، كم كان محمد شطح، مثالاً للفكر السياسي المتجدّد، والعالم في العناوين الاستراتيجية، والمتمكّن في التفاصيل والجزيئات، وذا العقل المنفتح والمستنير، وصاحب القدرة الخارقة على ابتداع الأفكار الجريئة والمتقدّمة من خارج المألوف والمعتاد.

وتزداد أهمية “العنوان – السؤال” الذي طرحه الوزير الشهيد، أمام مشهد التناقض الهائل والتخبط السائد بين أركان الدولة وخبراء النفط أنفسهم في تشخيص حجم هذه الثروة من جهة، وكيفية إدارة قطاع النفط والغاز من جهة أخرى.

فمما لا شكّ فيه، أن هذه الثروة الموعودة تطرح إشكالية أساسية، مرتبطة بكيفية إدارتها والاستفادة منها، بعيداً عما يلوح في الأفق من معلومات عن قيام الطغمة الحاكمة الفاسدة، بتأسيس شركات نفطية وهمية، ووضع يدها على القطاع من خلال تفاهماتها التحاصصية، التي لم تتأثر يوماً بخلافاتها وصراعاتها السياسية، لتشكل في ما بينها “كارتيل” نفطي – غازي، بهدف نهبه وإفساده، أسوة بكلّ القطاعات التي كانت منتجة، قبل أن تعمل على تدميرها وانهيارها.

والأخطر في الموضوع غياب أيّ استيراتيجية نفطية لدى الدولة، قادرة على أن ترسم خارطة طريق موثوقة وآمنة لكيفية تعاطيها مع هذا الملف الحيوي، إذ لا يوجد أكثر من بعض التعليقات لبعض الخبراء، أو المؤسسات الدولية التي لا تخرج عن تشخيص النظام المالي الواجب إعتماده لادارة العوائد، والتي تركّز على ضرورة الاستفادة من هذه العوائد في خفض عجز الموازنة والتخفيف من عبء خدمة الدين العام، وإصلاح قطاع الطاقة في البلد والبنى التحية عموماً، وإعادة هيكلة القطاع العام ووظيفته، مما سيؤدي حتماً إلى ابتلاع الخزينة العامة لعائدات لبنان من النفط والغاز المؤجلة، خصوصاً في ظل غياب الأرقام الرسمية التي تحدّد حجم الثروة الغازية ولو تقريبياً في المنطقة الاقتصادية اللبنانية، من جراء جهل السلطات لحجم إحتياطي الغاز في قعر المياه اللبنانية، وبالتالي عائدات هذه الثروة في حال استخراجها وبيعها.

قد يكون هذا مفهوماً لدى الطبقة السياسية، بحيث أن مصالحها الوجودية والنفعية، تجعلها تبتعد عن وضع إستراتيجيات تنموية وتحديثية لمفهوم الدولة من جراء تلك العائدات المتوقعة.

إلا أنّ الغريب هو غياب الاقتصاديين والخبراء، (مع بعض الاستثناءات)، عن بلورة رؤية استراتيجية وطنية تكفل استثمار العوائد لإحداث تنمية تضمينية دائمة.

هل ستبتلع حاجات الخزينة العامّة هذه العوائد؟ وتهدرها السلطة السياسية؟ أم سيصار إلى توزيعها كتحويلات نقدية مباشرة بالتساوي على عموم اللبنانيين كما طرح الوزير الشهيد محمد شطح؟

نعرض في ما يلي الجزء المتعلق برؤية الوزير الشهيد لتوزيع عائدات الثروة النفطية والغازية، التي لم يتطرق إليها أحد من أركان الدولة ولا الخبراء الاقتصاديين، بل تعمّدوا التكتّم عنها، لإبقاء الشعب اللبناني غافلاً عن حقّه الطبيعي:

يطرح شطح في سياق الدراسة السؤال الآتي:

إذا سئل اللبنانيون عن توزيع إيرادات هذه الثروة، فستكون الإجابة واضحة وعلى النحو الآتي: يجب أن يستخدم المال من الحكومة للحدّ من الدين العام، وزيادة الاستثمار في القطاع العام. قد تبدو هذه الخلاصة واضحة، إلا أنه ينبغي التمعّن بها مجدداً. مما لا شكّ فيه أنّ عجز لبنان المالي ومديونية الدولة يجب أن يُحدّا، وهناك أيضاً حاجة لا شكّ فيها الى تطوير البنية التحتية في البلاد. ولكن، تحديد كيفية صرف إيرادات الموارد الطبيعية هو موضوع مختلف: إذ هل يجب أن تُستخدم العائدات النفطية للحدّ من الدين العام، أم هل يجب إعادتها إلى أصحابها الشرعيين؟

ويجيب على السؤال المحوري الذي طرحه قائلاً:

إن عائدات الموارد الطبيعية ليست إيرادات ضريبية وهي بالتالي ليست رسوماً تحصّلها الدولة مقابل تقديمها خدمات عامة.

إن هذه الأموال التي تتلقاها الدولة هي إيرادات حصلت عليها من خلال بيعها أصولاً تعود للشعب اللبناني، كلّ الشعب. وقد عُهدت الى الدولة إدارة هذه الموارد (بما فيها بيع هذه الأصول) بالنيابة عن الشعب. على هذا فالأفضل أن توزّع عائدات بيع هذه الموارد مباشرةً على الشعب.

ويؤكّد شطح أنّ البعض قد يعترض على هذه الفكرة على أساس أنّ الأولوية هي لخفض الدين العام، ولكن ينبغي على الدولة إيجاد المصادر المالية للحدّ من الدين. ويجب أن يتحقق ذلك من الموارد التي تجمعها من دافعي الضرائب على أساس تقاسم عادل للأعباء ضمن نظام ضريبي مقبول.

أمّا بالنسبة الى العائدات النفطية، فمن البديهي أن تُوزّع هذه الإيرادات على الشعب اللبناني بالتساوي وأن تُطبّق بالتالي الضريبة التصاعدية تباعاً بدلاً من مصادرة تلك الايصالات من اللبنانيين، الأغنياء والفقراء، قبل أن يصل المال إلى جيوبهم.

ويستطرد: على الرغم من أنّ هذه الفكرة قد تبدو جذرية، إلا أنّ التوزيع المباشر للموارد الطبيعية على اللبنانيين هو السبيل الأكثر منطقاً وعدالةً. وعلى هذا النحو، يجب على الدولة أن توزّع العبء الضريبي على أساس الدخل والاستهلاك بعد أن يتلقى كلّ لبناني نصيبه من عائدات النفط والغاز.

ويعتبر أن توزيع المال بشكل منتظم ومباشر للأسر يمكنه أن يحدث فرقاً كبيراً في حياة أغلب اللبنانيين ممن يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية. كما أنّ الآثار الانمائية المحتملة ستكون واضحة.

إنّ زيادة دخل الأسرة وتحسين قدرتها الشرائية، خصوصاً في المناطق المحرومة، هي عوامل محفّزة للنشاط الاقتصادي. أضف إلى ذلك، فإنّ التدفّق المستمر والمتواصل للدخل الاضافي (حتى لو كان متواضعاً) يعزّز قدرة الأسر على الاستفادة من هذا التدفّق، خصوصاً من خلال القطاع المصرفي، كما يشجّع على القيام باستثمارات رؤوس الأموال الصغيرة.

قد تطرأ أسئلة عدة حول هذا الموضوع خصوصاً للناحية التنظيمية والتقنية، هنا يمكن القول إن التقدّم في مجال تكنولوجيا المعلومات، والتي من شأنها أن تساعد في أغراض تحديد الهويّة وتسهيل الاتصالات والتوزيع، جعل التحكّم في هذا النوع من القضايا ممكنناً تماماً.

ولا يخفي شطح أنّه قد تُثار أسئلة عدة عن ماهية توزيع الإيرادات، وهل ستوزّع على المواطنين أو على الراشدين منهم؟ وماذا عن طبيعة سوق النفط واضطراباتها المحتملة، وكيف سيؤثر ذلك على التوزيع؟ كلّ هذه التساؤلات تحتّم ضرورة وضع سياسات وآليات واضحة لضمان الاستقرار والاستدامة الطويلة الأجل للدخل من النفط والغاز، وتجنّب الضغوط التضخمية، سواءً كانت الدولة هي المستفيدة أو المواطنون.

وكشف أنّه في بعض الدول، تشارك السلطات والحكومات في عمليات التوزيع المباشر لإيرادات الموارد الطبيعية. وأفضل مثال على ذلك هو ما تقوم به ولاية ألاسكا الأميركية الغنية بالنفط، حيث يحصل كلّ مواطن على مبلغ قدره 1,500 دولار أميركي من خلال صندوق إدارة أصول النفط والغاز الذي أنشأته الدولة خصيصاً لهذه الغاية.

بطبيعة الحال، هناك عدد متزايد من الدول الأفريقية الذي أنشأ أو يعمد الى إنشاء سياسات تعتمد على التوزيع المباشر لإيرادات الموارد الطبيعية، ولكنّه ليس مفاجئاً أن لا تحبذ معظم الحكومات التفريط بهذه العوائد المالية. كما يفضّل الدائنون الدوليون أن تُبقي الحكومات المدينة على إيرادات الموارد الطبيعية في يدها، وذلك لضمان سداد الديون.

كما أنّ هناك عدداً متزايداً من الاقتصاديين والمتخصصين في مجال التنمية في جميع أنحاء العالم بدأ يلحظ مزايا التحويلات المباشرة من الموارد الطبيعية.

ويجدّد التأكيد أنّ التوزيع النقدي المباشر في لبنان سيتيح للبلاد فرصة الاستفادة بصورة أكثر فاعلية من مبيعات الغاز والنفط.

كما أنّ أيّ جزء من العائدات قد تحتفظ به الحكومة من شأنه أن يشكل ضريبة مسطحة للموارد الطبيعية، مفروضة بشكل متواز على الأغنياء والفقراء، بغض النظر عن دخلهم الإجمالي. ولكن إذا كانت التسوية ضرورية، فيجب أن تبقى حصة الدولة من عائدات النفط والغاز التي تحتجزها الحكومة محدودة نسبياً.

ويختم قائلاً: لأولئك الذين يمكن أن يعترضوا بالقول إنّ أيّ توزيع نقدي مباشر من عائدات النفط والغاز في لبنان من شأنه أن يحرم الدولة من أداة قد تجعلها أقوى، أود أن أقول الآتي: الدولة القويّة هي في الواقع هدف سياسي مهم. نريد دولة تتمتّع بسيادة كاملة، دولة قادرة على تأدية مهماتها، دولة تتمتّع بالنزاهة، ودولة تساعد في بناء الازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

في الختام، ومن عمق معاناة اللبنانيين الإقتصادية والمعيشية، بعد إفقارهم الممنهج، إنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل ستُغتال رؤية الوزير الشهيد محمد شطح النفطية والغازية، كما إغتيل معدّها وواضعها، فيتحوّل اللبنانيون بأسرهم شهداء؟

شارك المقال