“أنف” ايران الطويل يتمدد غرباً!

أنطوني جعجع

ماذا بقي أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد تعثره في أوكرانيا في شكل أصبح التقدم فيها صعباً والتراجع منها مستحيلاً؟

حتى الآن ليس أمام الرئيس الروسي أكثر من سلاحين لا ثالث لهما: اما اللجوء الى السلاح النووي، وهذا يعني نقل تجربة هيروشيما الى موسكو، واما توسيع رقعة الحرب بحيث تشمل جبهات أخرى ومقاتلين آخرين، وهو سلاح بدأت ملامحه تلوح في الأفق في شكل تراكمي ومتسارع.

ففي قراءة سريعة لمسار الحرب في أوكرانيا، يتبين أن ثمة أطرافاً اقليمية ودولية تخشى سقوط المارد الروسي، وترفض التعامل مع الولايات المتحدة باعتبارها المارد الوحيد في العالم، حتى لو اضطرت الى دخول الحرب من مناطق وزوايا مختلفة.

وليس من قبيل المصادفة أن تحرك كوريا الشمالية ترسانتها الصاروخية البالستية والنووية، مطلقة تهديداتها في غير اتجاه، وأن تحشد بيلاروسيا قوات محلية وروسية مشتركة استعداداً لتحريك جبهة الشمال الأوكراني، وأن تقدم الصين خيار الغزو لجزيرة تايوان على أي خيارات أخرى، وأن تقف ايران الى جانب الجيش الروسي من خلال مسيرات تقصف كييف والمدن الأوكرانية الأخرى في شكل لم تشهده البلاد منذ انطلاق الحرب في شباط الماضي.

والواضح بما لا يقبل الجدل، أن الأطراف الأربعة، اتخذت قراراً شبه انتحاري بمنع موسكو من السقوط، معتبرة سقوطها مقدمة محتملة لسقوط مينسك وبيونغ يانغ وبكين وطهران الواحدة تلو الأخرى.

لكن أكثر ما أثار غرابة الأميركيين والدول الغربية، التورط الايراني المباشر وغير المباشر في صراع أوروبي قد يتحول الى صراع عالمي لا يستبعد من ترساناته الأسلحة النووية، مؤكدين أن طهران ارتكبت بذلك ربما أسوأ أخطائها الاستراتيجية في لحظة لا يبدو العالم مستعداً لأي نوع من التسويات أو الترقيعات الموقتة أو العلاجات التخديرية.

وتذهب مصادر عسكرية أميركية وغربية بعيداً الى حد القول، إن حلف الأطلسي لن يسمح لأي طرف بتغيير موازين القوى في أوكرانيا حتى لو اضطر الى استخدام القوة بطريقة أو بأخرى، مؤكدة أن أوروبا التي طالما أوجدت طرق خلاص للايرانيين خلال أزمات عدة من قبل، تبدو أكثر ميلاً الى محاسبة ايران عسكرياً، اذا لم تؤت العقوبات ثمارها بالسرعة اللازمة.

وتضيف المصادر أن حلف الأطلسي يخوض مع موسكو “حرب وجود” على مستويات عدة، ويعتبر ما تفعله ايران اعتداء مباشراً على أمن أوروبا المتهالكة للحصول على مصادر طاقة بديلة عن الطاقة الروسية، ومنع بوتين من اتخاذ أوكرانيا منطلقاً نحو غزو دول أخرى وضعت نفسها تحت حماية الأطلسي والأميركيين.

وتشير المصادر نفسها، الى أن ايران ارتكبت خطأ آخر، عندما كشفت ما تضمه ترسانتها من أسلحة نوعية متطورة، هي التي كانت تنفي دائماً وجود مثل هذه المسيرات التي تهدد أمن الخليج واسرائيل والقواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة، متخوفة من أن يكون مثل هذه المسيرات مخزناً في معسكرات “حزب الله” في كل من سوريا ولبنان. وهنا يتساءل المراقبون الغربيون حيال الأسباب التي تدفع ايران الى وضع أنفها بين سيوف المتقاتلين في القارة الشقراء، ملمحين الى ثلاثة أسباب رئيسة: الأول الضغط على الأميركيين لابرام الاتفاق النووي الذي تراهن عليه طهران لفك العقوبات والعودة الى سوق الطاقة وهو ما تميعه واشنطن، والثاني الضغط على كل من يسهم في تأجيج الشارع الايراني الذي يهدد النظام الحاكم في البلاد وفي مقدمهم الرئيس جو بايدن، وهو أيضاً لم يلق تجاوباً من الأميركيين، والثالث المساهمة مع الروس في الابقاء على توازن قوى يمنع الولايات المتحدة من التحكم بمصائر الدول والشعوب، لا سيما في الشرق الأوسط حيث تحتفظ ايران بعدد من الملفات الساخنة والضاغطة، ومنها في الوقت الحاضر الانتخابات الرئاسية في لبنان.

وهنا لا بد من إشارة لافتة الى أن التورط الايراني قابله موقف اسرائيلي رافض لأي تورط في أوروبا سواء لمصلحة أوكرانيا أو روسيا، وذلك لسببين أساسيين: الأول حرص تل أبيب على عدم اغاظة الروس المنتشرين في سوريا وبالتالي ضرب الاتفاق الضمني الذي يسمح للطائرات الحربية الاسرائيلية بقصف مواقع وترسانات “الحرس الثوري” و”حزب الله” في الأراضي السورية تماماً كما حدث قبل أيام، والثاني عدم مزاحمة الايرانيين في أوكرانيا خوفاً من تعريض اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان لأي تأخير أو انتكاسة من أي نوع.

ولا يبدو أن دول الخليج في وارد الابقاء على كل بيضها في السلة الأميركية، معتبرة أن التقارب مع موسكو قد يسهم في سحب ايران من اليمن بعدما تمنعت أميركا عن ذلك بهدف ابقاء السيفين اليمني والايراني مصلتين فوق حكام الخليج وتعميق اعتمادهم على الولايات المتحدة دون سواها من دول القرار والجوار معاً.

وهنا لا بد من السؤال: ماذا ينتظر هؤلاء لتفجير الجبهات دفعة واحدة أو الواحدة تلو الأخرى، ودفع الأميركيين الى القتال على أكثر من جهة لتخفيف الصغط عن الجيش الروسي ووقف الهجمات الأوكرانية المضادة التي تهدد باسترجاع ما كسبه في الأشهر الأولى من الحرب ولا سيما في الشرق والجنوب؟

والجواب يكمن في حالتين، الأولى عندما يدرك الرئيس بوتين أنه سيخسر الحرب لا محالة، والثانية عندما تدرك الأطراف الأربعة أنها قادرة على المخاطرة من دون تدخل عسكري مباشر من الولايات المتحدة يمكن أن يجر العالم الى حرب عالمية نووية هذه المرة.

ويبدو أن الاحتمال الثاني هو الأقرب الى المخاطرة من خلال تحرشات ضد الأميركيين في سوريا، ومن خلال حشود روسية في بيلاروسيا وأخرى أطلسية في الجناح الغربي من أوروبا ودول البلطيق، إضافة الى أسطول بحري ضخم في محيط تايوان وآخر جوي في قاعدة باغرام الجوية، وإشراك قوات من بريطانيا واليابان وفرنسا وأستراليا في بحر الصين.

انه مشهد لا يختلف كثيراً عن المشاهد التي سبقت الحروب العالمية الكبرى، لكنها تختلف هذه المرة في شقها النووي الذي لا يزال الرادع الأكبر لمنطق الحروب غير التقليدية.

وما يعزز هذه النظرية اللقاء المفاجئ الذي عقد بين وزيري الدفاع في واشنطن وموسكو للملمة أي خطأ أو مغامرة قد تطلق السلاح النووي من منصاته، من دون أن يعني ذلك الاتفاق على انهاء الحرب في أوكرانيا، التي تبقى حتى الآن على الأقل حقل تصفيات لا أفق له.

ولا يستبعد المراقبون أن يكون الطرفان تطرقا الى مسألة التورط الايراني في حرب أوكرانيا والسبل الآيلة اما الى لجمه، واما الى ضربه في شكل مباشر في حال تمنعت طهران عن سحب أنفها مما تعتبره واشنطن حلبة خاصة لا تقبل أي مزاحمة أو شراكة من أحد، وهو ما يفسر نشر غواصة نووية أميركية في بحر العرب الى جانب قوة بحرية ضخمة، في مقابل استفزازات وسلبيات ايرانية متفرقة في اليمن وسوريا ولبنان.

انه في اختصار صراع الجبابرة فوق الطاولة وتصميم الخطوط الحمر تحتها، والصراع الذي لا يمكن أن ينفجر عن آخره الا اذا طفا على السطح مجنون آخر يشبه فلاديمير بوتين، سواء في الصين أو بيونغ يانغ، أو انتحاري آخر يشبه بن لادن آخر، سواء في ايران أو لبنان، يطمع بلعب دور المصارع بين قطيع من الثيران.

شارك المقال