الرئيس والعضاريط

الراجح
الراجح

رُوِيَ أنه بعد احتجاب طويل عن المسرح الاعلاميّ، ظهر الزَّعيم “المبجَّل والمحبوب من أربعين مليون كوريّ شماليّ” كيم إيل سونغ في اجتماعٍ مغلقٍ مفتوحٍ لهيئة الحزب العليا ولمجلس الشّعب المُعَيَّن من هذه الهيئة معلناً لشعبِهِ وللعالَم ثلاث مفاجآت:

الأولى: أنّه سيموت في ذات يومٍ، في ذات ساعة، شأنه شأن سائر البشر. وهذه الخطوة لم تكن سهلة، ولا عفويّة، ولا “بنت ساعتها”، فقد سبق للشّيخ “كيم” أنْ وبَّخ أحد الصحافيّين العرب الّذي دُعِيَ لزيارة تلك البلاد، لأنه سأل الرّئيس الكوريّ سؤالاً عاديّاً:

منْ تُرَشِّح لخلافَتِك؟

ولم تتحرك شفتا الرَّئيس الّرفيق الشّيخ، بل صرخ تلامِذته والمترجمون وماسحو جوخ السلطان أي العضاريط، “لا، إنَّ رئيسَنا خالدٌ لا يموت”.

خجِلَ الصّحافيّ العربيّ وأعلنَ أسفه الشّديد لطرحِ هذا السّؤال، مؤكِّداً إيمانه وحتى “معلوماته” عن خلود الرَّئيس كيم إيل سونغ أو سونغ إيل كيم.

الثّانية: إن الشّعب الكوريّ بفلاّحيه وعمالّه وموظّفيه وقوّات أمنِه وشرطتِه وجميع من في المدن وفي الأرياف وافق على تفويض الزّعيم المبجّل بأنْ يقرأ أفكارَه (أي أفكار الشعب) وأنْ يقرِّرَ بالنّيابة عنه ما يرى أنّه القرار “الحكيم” المصيب منذ تلك اللّحظة حتى فناء المعمورة. وكان كيم متواضعاً وقَبِلَ التّكليف.

الثّاَلثة: بعد قراءةٍ مطوَّلَةٍ ودقيقةٍ لكلِّ الأفكار والنَّظريات والرُّؤى السِّياسيَّة، اكتشف الزّعيم أنَّ الولد، ويصح الصّهر في حال عدم وجود الولد، هو أعز ما في الدّنيا. وباعتباره (أي كيم) أباً لكلِّ الشَّعب الكوريّ، فقد اختار نجلَه ويُدْعى “كيم جونغ إيل” (ملاحظة كيم هو اسم العائلة الذي يُبدأ به في الصّين وكوريا والضّواحي) خلفاً له في الحزب وفي السُّلطة.

وهكذا تكون المنهجيَّة التّاريخيَّة قد “فقَّست” أخيراً نموذجاً قديماً جديداً للحكم اسمه نظريَّة التَّحوُّل من جمهوريةٍ شعبيَّةٍ ديموقراطيَّةٍ إلى امارةٍ عائليَّةٍ شعبيَّةٍ ديموقراطيَّة.

قد يسألُ البعض ما مناسبة هذه الرِّواية كونها بدأت بـ “رُوِيَ”؟

فالاجابةُ بسيطة كون رجالات السُّلطةِ في لبنان يُشبهون، وَلِحدٍّ كبير، ما تمَّ سردَه، وكوننا وبكلِّ تأكيد نملك فائضاً من السِّياسيِّين والقليل القليل من رجال الدَّولة. وهذا الفائضُ الشَّعبويّ يَستخدِمُ الاعلامَ “الموقديّ” (إشعال النار في قضايا لا مجال لتحقيقها لكنّها تُحلِّق نيراناً قد تحرق في طريقِها ما تبقّى من وطن).

كل هذا يتمّ بتشجيع وبفتاوى قانونيَّة ودستوريَّة يُطالِعنا بها كل يوم عضاريط الحاكم، وأحياناً الشُّركاء من الحكّام الآخرين، وبشعبويَّة لم يسبقْ لها مثيل.

الشّعبويَّة هي مقتل العمل السِّياسيّ الحقيقيّ، وسنتناول موضوعَها لاحقاً ولا رهان على أيّ طرفٍ من الأطراف المصابة بمرضها.

أخيراً، هناك مقولة في علم السّياسة اختصارها: “ليس المهم أن كيف ومتى تدخل الى عالم السِّياسة، بل يبقى الأهم هو توقيت لحظة الخروج…”.

ملاحظة: يقول المتنبي: “حاول أن تكونَ إنساناً بدل أن تكونَ عضروطاً”.

شرحُها: الخادم على طعام بطنه أو الخسيس (العضاريط الرعاديد أي الجبناء الأزلام).

شارك المقال