“الجلاد” لا الضحيّة!

رامي الريّس

إبتهج مناصرو رئيس الجمهوريّة (والبعض منهم يعيش حالة هستيريا الانكسار) لأنه إستعاد في صوته في مقابلته التلفزيونيّة الأخيرة “نبرة الجنرال” (وفيها من “الزنار ونزول” كما يُقال بالعاميّة) التي كانت تصدح في أحياء الرابية وعلى شاشات التلفزة قبل إنتقاله إلى القصر الجمهوري في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٦، بحيث يفرض البروتوكول على الرئيس مراعاة موقعه الجديد.

طبعاً، غنيٌ عن القول ان المقاربة الإعلاميّة ربما تكون هدأت في الشكل، ولكن المعارك التي خاضها العهد مباشرة أو بواسطة تيّاره لم تكن أقل ضراوة لأن “مدرسة” الجنرال التي غرسها في صفوف “التياريين” قائمة على النكد السياسي والحقد والكراهيّة والعبثيّة.

الواقع أن رئيس الجمهوريّة قلما أطل على الإعلام في مقابلات مباشرة على الهواء، وهذا يعني أن “المونتاج” في المضمون وليس في الشكل فقط يفعل فعله قبل البث على الهواء، أو أنه إستعاض عن التسجيل بإختيار إعلامية من خلفيّة سياسيّة معيّنة تجعلها لا تطرح الأسئلة الحقيقيّة التي تعكس المزاج الشعبي الحقيقي، ولا يمكن القول ان المقابلة الأخيرة شكلت إستثناء في هذا المجال. بكثير من الخفر، طرحت المذيعة الأسئلة المعدة سلفاً مع فريق الرئيس على الأرجح.

ولكن، بمعزل عن الشكل، ثمّة إنحراف فكري وسياسي عميق عكسه الرئيس في معرض إجابته عن الأسئلة يؤكد أنه لم يكن أهلاً لهذه المسؤوليّة الوطنيّة الكبيرة والدلائل على ذلك بالمئات ليس أقلها الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الكبير وغير المسبوق الذي شهدته البلاد.

لقد تراوح “المنطق السياسي” (هل هو منطق فعلاً؟) الذي استخدمه رئيس الجمهوريّة في مقابلته الأخيرة، وقبل ساعات من مغادرة القصر الجمهوري، بين إبراز نفسه تارة أنه الضحية وطوراً أنه البطل. في كلا الحالتين، ليس الأمر دقيقاً. لم يكن عون “ضحيّة” النظام السياسي لأنه كان في صلبه أقله منذ تاريخ عودته الملتبسة من باريس سنة ٢٠٠٥ (وتفاصيل صفقة العودة معروفة للقاصي والداني).

كيف يمكن لجهة سياسيّة تمثلت في إحدى الحكومات بعشرة وزراء أن تصوّر نفسها على أنها “ضحيّة”؟ وكيف يمكن لجهة سياسيّة “فاخرت” على مدى سنوات بأنها الكتلة النيابيّة الأكبر والأوسع تمثيلاً وأوصلت رئيسها إلى رئاسة الجمهوريّة أن تعتبر نفسها “ضحيّة”؟ كيف يمكن لجهة سياسيّة “صادرت” وزارة الطاقة والمياه على مدى نحو ١٤ عاماً وأهدرت نحو ٤٠ مليار دولار أن تبرر فشلها بغياب الإعتمادات كما إدعى رئيس الجمهوريّة؟

الأسوأ من كل ذلك أن رئيس الجمهوريّة حاول أن يظهر نفسه على أنه “البطل” الذي سعى الى الوقوف في وجه “الفساد” إلا أنه لم يُوفق نتيجة مواقف القوى السياسيّة الأخرى. إذا كانت تبرئة بعض الأطراف السياسيّة من الفساد السياسي والمالي غير منطقيّة بطبيعة الحال؛ فإن تبرئة التيار ورئيسه غير منطقيّة أيضاً وثمّة الكثير من المؤشرات التي تبرهن ذلك.

كرّس العماد ميشال عون في تلك المقابلة البائسة الصورة التي إنطبعت في أذهان اللبنانيين عنه أنه لم يكن مرة “رجل دولة”. حتى الاعلاميّة المحاورة كانت تطرح عليه معظم الأسئلة بصفته لا يزال “الأب الروحي” لـ “التيار الوطني الحر”. هو كذلك فعلاً! لم يغادر عون يوماً موقعه في التيار والرئاسة كانت أكبر من أفقه السياسي الضيّق الذي سيعود إليه مرة جديدة من الرابية مناكفاً ومتبرماً وعبثياً.

الجنرال لم يكن بطلاً في كل مسيرته العسكريّة والسياسيّة، ولا كان الضحيّة. ولكن الأكيد أنه، في السنوات الست الأخيرة، كان “الجلاد” الذي أفسد أحلام اللبنانيين بوطن ديموقراطي حر، وأنهكهم بلعبته المفضلة ألا وهي “محاربة طواحين الهواء”!

شارك المقال