“حزب إيران” يدير سيناريو الشغور… للوصول الى مرشّحه

عبدالوهاب بدرخان

منتصف ليل الاثنين – الثلاثاء تنتهي أكثر ولاية رئاسية لبنانية شؤماً، ولا تبدأ ولاية جديدة يمكن تعليق آمالٍ عليها، إذ فشل مجلس النواب، بإرادة “حزب إيران/ حزب الله” وحليفه “التيار العوني”، في القيام بواحد من أهم واجباته الدستورية: انتخاب رئيس. بدأت إذاً مرحلة شغور رئاسي أكثر خطورة من تلك التي سبقتها (2014 – 2016) وبذلت خلالها حكومة الرئيس تمام سلام، كاملة الصلاحيات، أقصى جهدها للحفاظ على الدولة على الرغم من الصعوبات التي افتعلها “الحزب” و”التيار”. أما الشغور مع حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي فسيكون أكثر تعقيداً، نظراً الى استحالة اتخاذها أي قرارات في مرحلة بالغة الدقّة ويُفترض أن تُقرَّ فيها “إصلاحات” لملاقاة شروط صندوق النقد الدولي، ولا خيار آخر سواها للبنان، على الرغم من قسوتها.

لن يُسلّم ميشال عون العهدة الى أي رئيس آخر، فالأخير غير موجود، ولم يُعثر عليه بعد، ولو وُجد فما عساه أن يسلّمه: نسخة من “اتفاق مار مخايل”؟ ليعرف الآتي الى بعبدا ما هي تعليمات “حزب إيران” كي يُعفيه من الاغتيال؟ أم دولة مفلسة ومفككة وفاقدة السيادة لمصلحة الاحتلال الإيراني المحصّن بالسلاح غير الشرعي وبتغطية مسيحية له باسم “حقوق المسيحيين”؟ أم لائحة للتعيينات القضائية المنقّحة بعناية جبران باسيل وسليم جريصاتي لضمان خضوع القضاة أمام سطوة “حزب إيران” وغضّهم النظر عن جرائمه ومخالفاته، من مسؤوليته في تفجير مرفأ بيروت وعرقلة التحقيق فيه إلى إشرافه على تهريب الكبتاغون إلى ضلوعه المباشر في الاغتيالات من رفيق الحريري الى لقمان سليم؟ أم يسلّمه الورقة “السرّية” لـ “اللا- اتفاق” و”اللا- معاهدة” و”اللا- تفاهم” و”اللا- تطبيع” و”اللا- سلام” على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، باعتبار أن هذه “اللاءات” شكّلت “انتصاراً كبيراً وكبيراً”، بحسب قول حسن نصرالله؟ أم يسلّمه أخيراً سجل القمع الدموي الذي أنزله صبية “حزب القمصان السود” وشرطة مجلس النواب بثوار “انتفاضة 17 تشرين” المعبّرة عن رفض الشعب بكل فئاته لمنظومة المافيا والميليشيا؟

الأكيد أن ميشال عون يعتبر إنجازه الأعظم في تركه لخلفه المجهول في بعبدا إرثين “ثمينين”: نسخة ممزّقة من الدستور، ونسخة ممزّقة من “اتفاق الطائف”. هذان الإرثان المسمومان هما الهدية الأخيرة من عون الى نصرالله كذكرى للحقد الذي رعياه معاً حيال الدولة والكيان والجمهورية والتعايش المشترك، وضدّ الطوائف والمذاهب مجتمعة. يصعب القول أيهما أكثر حقداً وتآمراً على الشعب الذي ذهبا الى أقصى حدّ في إذلاله وتجويعه وتغطية النهب المنظّم لحقوقه وأمواله… وعلى الدولة التي ذهبا الى أقصى حدّ أيضاً في اهانتها وسحق مؤسساتها ولم يتردّدا في تغييب الجيش عن اتفاق الترسيم… وعلى الوطن الذي أمعنا في تحطيم تاريخه وجغرافيته، وفي تخريب عروبته ووشائجه العربية كما في تشويه وجهه وصورته في العالم.

قد يبدو الشغور الجديد مختلفاً لمجرّد أن “حزب إيران” ليس لديه مرشّح وحيد يفرضه على البلاد، أو أن لديه مرشّحاً “سرّياً” ينتظر الوقت المناسب لإظهاره. فالظروف منذ 2016 حتى الآن، تحديداً بعد “انتفاضة 7 تشرين”، وبسبب العقوبات الأميركية، لم تتح لـ “الحزب” استنساخ ميشال عون آخر، ولا تأهيل الصهر باسيل، ولا التمهيد لسليمان فرنجية، إذ أنه لا يثق إلا بهذين الحليفين. ومع أنه يشعر بالتزام “أخلاقي” تجاه فرنجية، إلا أنه يفضّل باسيل بعدما خبره في دور “الرئيس الظلّ” لعمّه، وفي مهمات كثيرة كلّفه بها في الداخل والخارج، كذلك لأن لديه تكتلاً نيابياً ساعده “الحزب” على “تفويز” عدد من أعضائه، في حين أن لفرنجية نائباً هو نجله. إذاً لا يزال “الحزب” يراهن على باسيل، الذي لم يفقد الأمل في وراثة عمّه ويراهن بدوره على دعم إيراني لرفع العقوبات الأميركية عنه ضمن صفقة خاصة.

هذه المرّة يدير “الحزب” لعبة الشغور بورقة أو أوراق مستورة، ويشيع أن لا مرشحين له لكنه يشهر “الفيتو” ضد كل مرشّح لا يتمتّع بـ”مواصفات” باسيل أو فرنجية. وبعدما سمّى ميشال معوّض “مرشّح تحدٍّ” لإقناع الآخرين باستبعاده، فإنه يوحي بميله الى “مرشّح توافق” أو “تسوية”، لكن مثل هذا الخيار صعبٌ أيضاً بمقدار صعوبة التوافق بين حزب مدجّج بالأسلحة والصواريخ وبين أطراف لا تملك سوى “أسلحة” سياسية. ومع أن “الحزب” يروّج بأنه لا يمانع ترئيس قائد الجيش فإنه واقعياً لا يرتاح إليه، لأسباب تتعلق من جهة بشخصية العماد جوزف عون، ومن جهة أخرى برفض “عوني” واضح لهذا الخيار. ولكي يغادر “الحزب” مربع “الورقة البيضاء” ويصوّت مع حلفائه لأي مرشّح “تسوية” أو “توافق”، سواء كان قائد الجيش أو سواه، فإن هذا المرشّح مدعو أولاً الى الموافقة على شروط معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” والقبول بمأسستها وبسعي “الحزب” الى تعديل الدستور وتغيير تركيبة النظام، وثانياً الى إرضاء “التيار العوني” بمنحه مسبقاً حصة كبرى من الوزارات والمناصب العليا في إدارة الدولة.

وهكذا يكون سيناريو الشغور هو نفسه مع بعض التنقيح. لم يستخلص “حزب إيران” من “العهد (العوني) الأسود” الذي فرضه على لبنان واللبنانيين سوى أنه حقّق مصالحه، واستخدمه كواجهة مسيحية لـ “التنازل التاريخي” في اتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، فقط لتحصل إيران (و”حزبها”) على اعتراف أميركي – إسرائيلي – أوروبي، ولو غير رسمي وغير معلن، بأن لبنان بات جزءاً عربياً آخر (بعد العراق، وفي انتظار سوريا واليمن) مكرّساً في النفوذ الايراني. لذلك جرى تغييب الجيش عن الصورة في احتفالات “النصر” بالترسيم لمصلحة نصرالله وعون، وإذ يتمسّك الجيش بمبدأ الخضوع (دستورياً) لإرادة “القيادة السياسية” فإنه يُجرّ (دستورياً أيضاً) الى القبول بقيادة سياسية أخضعها عون لإرادة إيران و”حزبها”.

في حالٍ كهذه، لن تفتعل الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل أي عراقيل أمام “الحزب”، أو إيران، ما دامت الأخيرة حصلت على ثمن تسهيل “اتفاق ترسيم” يحقّق أولاً وأخيراً مصلحة إسرائيلية خالصة ومباشرة، أما المصلحة اللبنانية فستنتظر بضع سنوات. وبالتالي فإن هذه الدول المعنية لن تذهب بعيداً في محاولاتها لـ “تصويب” الوضع اللبناني من خلال انتخاب رئيس جديد لديه إرادة وقدرة على الإصلاح وترميم الدولة واستعادة السيادة، فهذه باتت قضايا ثانوية طالما أن البلد متروك في أيدي “حزب” يريد استكمال تخريب البلد، فبعد النظام السياسي والاقتصادي والمصرفي، وبعد العبث بالنظام القضائي، وبالحدود، لم يبقَ سوى الجيش الذي يشترط قائده الحالي تحييده وإبقاءه في يده ليقبل أن يُطرح اسمه كمرشح للرئاسة.

شارك المقال