حركة “حماس” في دمشق!

اكرم البني
اكرم البني

تعددت الاجتهادات في البحث عن السبب والهدف الذي دفع حركة “حماس” الى زيارة دمشق مؤخراً وفتح صفحة جديدة، عنوانها، كما أعلن في بيانها “بناء وتطوير علاقات راسخة مع النظام السوري، خدمة لأمتنا وقضاياها العادلة وفي القلب منها قضية فلسطين… كذا”! وذلك بعد قطيعة دامت أكثر من عشر سنوات، دشنها خروج مكتبها السياسي من دمشق عام 2012 جراء رفض الحركة تأييد النظام وممارساته العنفية خلال التطورات التي شهدتها سوريا منذ العام 2011 يحدو ذلك مشهد وقوف زعيميها، خالد مشعل وإسماعيل هنية، أمام حشد من الفلسطينيين، وهما يرفعان علم الثورة السورية، ويعلنان بوضوح وقوف حركتهما إلى جانب الثائرين، وفي المقابل كررت السلطة السورية مراراً اتهامها لـ “حماس” بتأجيج الصراع الدائر في البلاد وتقديم دعم سياسي وعسكري الى أطراف من المعارضة وخاصة تلك التي تنتمي إلى الاسلام السياسي.

يصيب من يربط دافع حركة “حماس” الى الانفتاح على النظام السوري، بضغط إيراني غرضه ترميم محور المقاومة والممانعة، الذي تهتك بفعل تباين مواقف أطرافه من ثورات الربيع العربي، والقصد، أن إيران هي التي لعبت دوراً حاسماً في جعل “حماس” ترضخ لمطالب حكام دمشق، مستثمرة شروطاً ومناخاً لم تعد فيهما “الحركة” قادرة على تحمل تبعات الانفكاك عن الاستراتيجية الإقليمية لحكم الملالي في طهران ومشروعه التوسعي، الأمر الذي انعكس بوضوح في انتخاباتها عام 2017 التي أفرزت شخصيات جديدة في أعلى الهيئات القيادية تميل إلى التقارب والاتكاء مجدداً على طهران، حتى وإن أعلنت وقتئذٍ أن هذا التقارب لن يتعدى الملف الفلسطيني.

صحيح أن ثمة جمود وجفاء في العلاقات حصل عام 2012 بين إيران و”حماس” بسبب الموضوع السوري، لكن ما لبث الطرفان أن سعيا الى إعادة المياه إلى مجاريها عام 2017 حين وجدا ضرورة مشتركة لوضع الخلافات السابقة جانباً، وتعزيز التواصل بينهما، تحدو ذلك حاجة إيرانية مزمنة الى عدم التفريط بالورقة الفلسطينية التي دعمتها بصواريخ متنوعة ودأبت على تحريكها عندما تتطلب مصالحها المباشرة ذلك، بينما يعرف القاصي والداني أن “حماس” إنما بنت قوتها العسكرية وقدراتها المالية بدعم من إيران، وأنها صارت تعاني من أزمات خانقة جراء تجميد علاقتها بالأخيرة، الأمر الذي حضّها ليس على العودة الخانعة الى الحضن الإيراني فحسب، وإنما أيضاً على الانصياع للاشتراطات المذلة لإتمام المصالحة مع النظام السوري.

وأيضاً لا يخطئ من يشير إلى دور روسي في التشجيع على تلك المصالحة، خاصة مع ما رشح من ضغوط مارستها موسكو على حركة “حماس” للانفتاح على النظام السوري، وهي ضغوط ترافقت مع جهود موازية من أجل التقارب بين حكومة أنقرة وسلطة دمشق، وإذا صح الأمر فإن الانصياع للعمل بموجب أجندة روسية، يرتبط بحاجة موسكو العاجلة الى قطف ثمار النجاح في تعويم النظام السوري عبر تغطيته ببعض القوى الاسلامية السنية، كتركيا وحركة “حماس”، علّها تتمكن من تخفيف وطأة الانتكاسات التي لحقت بها في أوكرانيا.

كما لا يجانب الصواب من يربط دافع المصالحة، بجديد الموقف التركي مع إعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، والتي وصلت إلى مراحل متقدمة عقب تبادل السفراء بين الجانبين، وتزايد الزيارات المتبادلة والتعاون في مجالات مختلفة، وهو التعاون الذي ما زالت تل أبيب تشترط تقدمه بخطوات لحكومة أنقرة تلبي المطالب الاسرائيلية ومنها إنهاء نشاط قادة “حماس” وتواجدهم على الأراضي التركية. وبالنتيجة فإن “حماس” لا بد أن تتحسب، أسوة بما حصل مع إخوان مصر، من قرارات جديدة لحكومة أنقرة، تضيق من خلالها هامش الحرية على قادتها وكوادرها، وعلى نشاط مؤسساتها المختلفة التي تقول إسرائيل إنها تمارس أنشطة واسعة وكبيرة على الأصعدة كافة سياسياً ومالياً واجتماعياً، بما يعني اضطرارها في مستقبل قريب الى إيجاد بلد بديل، وليس أفضل من سوريا، يمكنه أن يستضيف كوادرها وقياداتها الذين قد يضطرون الى مغادرة الأراضي التركية، ويزيد الطين بلة تحسب حركة “حماس” وخشيتها على شروط وجودها في تركيا من نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي ستشهدها البلاد منتصف العام المقبل، والتي قد تجلب تغيرات كبيرة في التركيبة السياسية للسلطة، ووصول معارضة إلى الحكم تميل الى منع “حماس” من ممارسة أي نشاط من الأراضي التركية.

ويبقى أخيراً، أن حركة “حماس” وأياً كان الدافع المباشر الى تقديم أوراق اعتمادها من جديد للنظام السوري، فإنها أثبتت عملياً عمق النهج البراغماتي والانتهازي الذي يعتمل في صفوف قادتها، لتؤكد حقيقة تترسخ كل يوم في الوعي والوجدان العربيين، عن ماهية جماعات الإسلام السياسي والحدود المتواضعة للثقة بها وبما ترفعه من شعارات وطنية، واستسهالها التخلي، من دون أن يرف لها جفن، عما تدعيه لنصرة حقوق البشر والقيم والمبادئ الانسانية.

ومثلما هرب قادة الاخوان المسلمين في سوريا من تحديد موقف قاطع وحاسم من اندفاع حركة “حماس” الى مصالحة النظام واكتفوا بالعتب وبعض اللوم في بيان كان حمّال أوجه في مضمونه، فقد ظهر أن ثمة ميل جماعي لدى غالبية حركات الاخوان المسلمين في المنطقة نحو عدم إعلان موقف رسمي يدين أو ينتقد ما أقدمت عليه حركة “حماس”، وذلك تحت حجج وذرائع مختلفة، مرة أولى، بتسويغ شرعية الدفاع الأعمى عن “أخوة المنهج” ظالمين كانوا أو مظلومين، ومرة ثانية، بداعي التريث كي لا يشكل هذا النقد خدمة للعدو الصهيوني وإساءة الى نضال الشعب الفلسطيني، ومرة ثالثة، باعتبار تلك المصالحة موضوعاً هامشياً لا يستحق التوقف عنده أمام مواضيع أكبر تهم الأمة العربية والإسلامية!.

إن ما فعلته “حماس” هو تخلٍ عن المبادئ الإنسانية والتحررية التي طالما جاهرت بها، وهو استخفاف بدماء الشعبين السوري والفلسطيني التي سفكها نظام الاجرام في دمشق… لكن، ماذا يمكن أن يؤمل من طرف لا يزال يخضع لإملاءات الغير ويتغنى بالانقسام الفلسطيني ويكرّس قطاع غزة كإمارة إسلاموية على الطريقة الطالبانية؟ ماذا يمكن أن يرجى من طرف استبدادي مستأثر، لم يعد من قيمة عنده للقضية الفلسطينية سوى توسلها، أسوة بحلفائه، حكام إيران ونظام دمشق و”حزب الله”، من أجل ضمان استمرار تسلطهم وفسادهم وامتيازاتهم؟

شارك المقال