وداعاً عون… الجيوب فارغة ودقات القلب مليون

تالا الحريري

31 تشرين الأول كان يوماً تاريخياً للبنان وشعبه بالخلاص، حين غادر الرئيس ميشال عون قصر بعبدا، تاركاً خلفه كرسي الرئاسة، وهذا هو اليوم الموعود.

عاش لبنان فراغاً رئاسياً من العام 2014 حتى العام 2016 حين تربّع عون على الكرسي وبدأ عهد المعجزات لا بل العجائب. ومع رحيله لا يفكّر اللبناني في الرئيس المقبل ولا في الفراغ المتوقع بقدر ما ينتظر انتهاء هذا العهد علّ الأزمات تنفرج. خرج عون بصفر إنجازات بعدما وعد بالاصلاح والتغيير، مخلفاً وراءه دماراً شاملاً على مختلف الأصعدة في البلد، وربّما الانجاز الوحيد الذي استطاع القيام به أنه صمد رئيساً بعمر الـ89 عاماً.

القطاع الصحي في بداياته

في السنوات الأولى التي وطئت فيها قدم عون موقع الرئاسة كان القطاع الصحي في لبنان الأفضل بين الدول، إذ كان قد إحتل في العام 2018 المركز 33 بين 195 دولة في مؤشر الوصول إلى الرعاية الصحية وجودتها (HAQ) وحصل على المركز الأول بين جميع دول الشرق الأوسط، وسجّل أفضل أداء من بين الدول ذات المؤشر الاجتماعي الديموغرافي (SDI) المتوسط إلى المرتفع، إلى جانب المملكة العربية السعودية وتركيا. وفي ذلك الوقت نجح لبنان أيضاً في تقليل معدل الوفيات الرضع إلى حد كبير وحديثي الولادة ومعدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة.

تلك المراكز غابت عن لبنان اليوم، فكان العام 2019 نقطة تحول كبيرة اذ شهد إنتفاضة 17 تشرين وما صاحبها من إنهيار في الليرة اللبنانية وجائحة كورونا التي ضربت العالم كلّه، وما لبثت أن تدفقت الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والصحية وغيرها على الأصعدة كافة.

بعد إندلاع الثورة، بدأ الدولار يرتفع شيئاً فشيئاً، وهنا سارع التجار إلى رفع أسعار المواد الغذائية والمواد الأخرى كافة وسط هدوء تام من الرئيس عون فلا مراقبة ولا مساءلة ولا دعوات إلى مداهمات، ما زاد من الاحتكار.

القطاع الصحي بوجود العهد

واستمر الدولار يرتفع بصورة جنونية إلى جانب تدهور العلاقات الخارجية في لبنان وتقطّع الأوصال إضافةً إلى الصراعات الداخلية، وشهدنا نقصاً في المستلزمات الطبية في أكثر فترة كان لبنان بحاجة إليها في ظل جائحة كورونا. إنعدمت قدرة المستشفيات وإنقطعت الأدوية كلياً مع أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية كذلك وباتت تعطى بالقطارة مع رفع الدعم عنها. فالأدوية صارت تُخزن بإنتظار رفع أسعارها، وإنقطع حليب الأطفال وأدويتهم حتى شهدنا عدّة حالات وفاة بسبب عدم توافر دواء خافض للحرارة أو عدم إستقبال أي مستشفى للمريض بسبب عدم إمتلاكه الكلفة الاستشفائية كاملة.

غابت تغطية وزارة الصحة والضمان الاجتماعي وإرتفعت كلفة الاستشفاء حتى أنّها باتت تعادل شراء سيارة. وعلى الرغم من ذلك، لدى دخول المريض إلى المستشفى قد لا يخرج سالماً بسبب غياب المعدات الأساسية وعبوات الأوكسجين مع انعدام الكهرباء وعدم قدرة المستشفيات على تحمل الأعباء المالية لتغطية حاجات المستشفى. بعض المستشفيات فقد جميع المعايير الصحية حتى بات مهدداً بالاقفال ومنها مستشفى سبلين التي إعتذرت مراراً عن إستقبالها المرضى لفقدانها جميع المواد والمستلزمات والأدوية وغياب الكهرباء.

عاشت المستشفيات الحكومية والخاصة كذلك في تخبّط مستمر بإنتظار الحلول التي باءت بالفشل ولم يتحقق أي منها. حتى أنّنا شهدنا هجرة كبيرة للأطباء والممرضين الذي سرّع في إنهيار القطاع الصحي.

يُذكر أنّه على إمتداد السنوات الـ15 الماضية زادت النفقات الصحّيّة في لبنان بنسبة 57% لتصل إلى 719 دولاراً للفرد في العام 2017، وسجلت البلاد أعلى نسبة إنفاق صحّيّ بين الدول العربيّة 8.2% في العام 2018.

ماذا عن الوضع الاجتماعي؟

بدأت الارتفاعات أولاً في أسعار المواد الغذائية وسط تدهور حاد في رواتب القطاع الخاص والقطاع العام الذي نفذ اضراباً لأسابيع طويلة وعطّل معظم المعاملات، مطالباً بالحصول على ما يكفيه لإكمال الشهر مع وصول الدولار إلى عتبة الـ35 ألف ليرة آنذاك.

توالت الأزمات، فبعد إنقطاع الأدوية جاء دور المحروقات، وملأت الطوابير على المحطات الشوارع في مختلف المناطق وبات المواطن ينتظر يوماً كاملاً ليحصل على نصيبه والا يرحل خاوي الوفاض.

إنقطع البنزين ثم عاد مع إرتفاع سعره، وتسبب بالأزمة تخزينه من أصحاب المحطات. واليوم لا يزال البنزين يتأرجح صعوداً وهبوطاً مع تأرجح الدولار على الرغم من إنخفاض سعر النفط العالمي.

بالطبع لم يقتصر الانقطاع على البنزين وحسب، بل شمل كل المحروقات إذ بات المواطن مجبراً على تحمل تكاليف إضافية من ناحية الغاز والمازوت، وأيضاً رُفعت إشتراكات المولدات بحجة توافر كمية قليلة من المازوت مع فرض تقنين حاد. أزمة إنقطاع المازوت وإرتفاع سعره لم تقتصر على البيوت وحسب، بل فتحت الأبواب نحو أزمات جديدة منها أزمة الخبز في ظل عدم توافر المازوت لتشغيل الأفران وغياب الطحين بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور وعدم فتح مصرف لبنان الإعتمادات وتأثير الحرب الروسية -الأوكرانية على لبنان. وطالت الأزمات أيضاً قطاعي المياه والاتصالات، حتى وصلت الى أزمة جوازات السفر وغيرها…

رُفع الدعم تماماً عن كل شيء في عهد عون وارتفعت معه معدلات الفقر والبطالة والهجرة في لبنان، يحيث وصلت نسبة السكان الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد حتى العام 2021 إلى 82%، ونسبة الأسر المحرومة من الرعاية الصحية ارتفعت إلى 33%، ونسبة الأسر غير القادرة على الحصول على الدواء إلى أكثر من النصف. فيما بلغ معدل بطالة النساء 32.7٪ مقارنة بمعدل الرجال 28.4%، في حين بلغ معدل الشباب 47.8%.

حتى أن لبنان صُنّف كأسوأ ثاني دولة في لائحة البلدان من ناحية معدلات الصحة العاطفية، (حسب غالوب وستاتيستا). وهذا المقياس اتخذ على أساس مشاعر الناس اليومية من الحزن والاجهاد والقلق والغضب والألم الجسدي.

ولم يكن هذا كافياً لفخامته، إذ لا ينسى اللبنانيون اليوم المشؤوم في ٤ آب ٢٠٢٠ بإنفجار مرفأ بيروت الذي حوّل المدينة إلى مدينة أشباح ضبابية مليئة بالأشلاء والجثث والجرحى. وعد بالحقيقة خلال خمسة أيام وكلنا كان يعلم أنّه يعلم، ولم يحرّك ساكناً. مرت سنتان على الفاجعة الثانية، ففاجعتنا الأولى كانت منذ ٦ سنوات حين غدوت رئيساً… كان حقاً تاريخاً مليئاً بالصراعات والانهيارات ببصمة “الرئيس القوي” في عهده البرتقالي.

شارك المقال