رفيق الحريري… إعادة بلورة مشروعه الوطني ضرورة للإنقاذ

زياد سامي عيتاني

تحلّ الذكرى الـ ٧٨ لميلاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري (١ تشرين الثاني ١٩٤٤)، وما زال اللبنانيون يتفاعلون معها على أنها ذكرى لولادة لبنان الجديد، بعدما أعاد رهانهم على لبنان، في وقت فقدوا فيه ثقتهم بصلاحيته موطناً لهم، يوم كان غارقاً في أتون الخراب والدمار والقتل والتقاتل الطائفي العبثي البغيض.

فالرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يكن حالة سياسية – عائلية تقليدية، شبيهة بباقي البيوتات السياسية والزعامتية اللبنانية، كما لم يكن واحداً من قادة الأحزاب الميليشيوية، الذين أطاحوا بتلك الزعامات “الكلاسيكية”، تحت شعار القضاء على الاقطاع السياسي، مستفيدين من الحروب المتتالية، ليتحوّلوا بعد إتفاق الطائف إلى نسخة جديدة للإقطاع القديم، بمسمى “أمراء الطوائف” المدافعين عن حقوقها (!).

كان رفيق الحريري ظاهرة إستثنائية غير مسبوقة في الحياة السياسية اللبنانية على الاطلاق؛ بحيث يكاد يكون الوحيد من كلّ الزعامات اللبنانية الذي أتى إلى الحكم بإجماع دولي وعربي ومحلي، وبحوزته مشروع وطني متكامل، عمل على تنفيذه لنقل لبنان من حالة الحرب إلى حالة السلم، وفقاً لما نص عليه “الطائف”.

فقد شرع الرئيس الشهيد منذ وصوله إلى الرئاسة الثالثة بديناميته وإندفاعه، مسابقاً الوقت والزمن (من دون أن يتمكن أحد من اللحاق به) في إطلاق أكبر ورشة سياسية وإقتصادية ومالية وإعمارية وإنمائية، لاعادة بناء ما تهدم، وإعادة لبنان إلى دوره الريادي في المنطقة على الصعد كافة، وإستعادة ثقة العالم به، موظفاً كلّ طاقاته وخبراته وعلاقاته، وما يتمتع به من ثقة وتقدير عربي وعالمي، لتحقيق مشروعه الوطني المتكامل، بهدف إعادة ترسيخ السلم الأهلي والوحدة الوطنية والاستقرار الإجتماعي والنهوض الإقتصادي، من خلال إزالةِ كلّ آثار الحروب، ومعاودة البناء على أسس ومرتكزات حديثة ومتطورة، تواكب حركة العصر، وإستعادة لبنان تصنيفه كواحد من البلدان المتقدّمة في المنطقة.

وتمكن الرئيس الشهيد، بإصراره وصلابته، وحنكته السياسية والتفاوضية والحوارية مع الفرقاء اللبنانيين ومع الراعي الإقليمي، من تنفيذ ما استطاع من مشروع عملاق بهذا الحجم خلال فترة زمنية قياسية، وسط غابة “وحوش السياسة” المفترسين، وبالتالي تمكّن من نقل لبنان من مرحلة إلى مرحلة، وإعادته إلى الخارطة العالمية، بسرعة قياسية، أدهشت العالم وأذهلته، وجعلته قبلة للاستثمار بكلّ أوجهه، ومحط أنظار رجال الأعمال في مختلف المجالات والاختصاصات ومن مختلف دول العالم.

هنا لا بدّ من التذكير بتوصيف الرئيس نبيه بري للشهيد بـ”الدولة المتحركة”، والذي قال فيه الشيخ محمد بن راشد: “إنني أنفذ كلّ الأحلام التي كانت تراوده ومُنع من تحقيقها”… .

في ذكرى ميلاد الرئيس الشهيد، وإزاء المستقبل الغامض والبالغ الخطورة للبنان الدولة والكيان، من جراء التداعيات الكارثية “الجهنمية” للتطورات والتحولات الجذرية في المنطقة، ووسط هذا الإنهيار الشامل الذي يضرب كلّ مقومات الدولة والشعب ومكوناتهما، مما يهدد وجودهما، المطلوب العودة إلى الجذور والينبوع، العودة إلى عناوين وتوجهات الأسس والمرتكزات الصلبة لمشروع الرئيس الشهيد، الذي لا يزال حاجة وطنية ملحة، ومنطلقاً أساسياً لإنقاذ لبنان قبل وقوعه الأخير في الدرك الأسفل من الإنهيار الكامل.

لكن هذه العودة لـ “تراث” رفيق الحريري لا ولن تتحقق إلا بعد المراجعة الذاتية النقدية بشجاعة ومسؤولية وبموضوعية لكلّ المرحلة التي أعقبت الاغتيال المزلزل، بكلّ محطاتها ومفاصلها، والتوقف مطولاً أمام أداء ورهانات و”أجندات” وأطماع من تظلّل من الأصدقاء والمقربين قبل الطارئين الجدد بما توافقوا على تسميته “الحريرية” للتستّر بها، وإخفاء حقيقة مآربهم في الاستيلاء على إرث سعد الحريري حياً، بعدما فشلوا في وراثة رفيق الحريري شهيداً، قبل أن ينقلبوا عليه، بحثاً عن كسب ودٍ لم يأتِ، ليكونوا زعماء رديفين من الدرجة الثالثة.

كذلك، لا بدّ أيضاً في سياق المراجعة من إعادة نسج العلاقات السياسية مع مختلف الأطراف والفرقاء، بعيداً عن المحاباة والمجاملة، على قاعدة الواقعية السياسية، بعد تعاقب الجميع من حلفاء وأصدقاء وخصوم ومنتقمين على ممارسة شتى أشكال المناكفات والابتزاز والقصف السياسي من العيار الثقيل، والتعامل معه تقرّباً أو إبتعاداً على “القطعة” (!) ليتوجوا ممارساتهم المسمومة بالافادة من غياب سعد الحريري عن المسرح السياسي لتعزيز حضورهم في الداخل والخارج.

في الخلاصة، الوطن بأسره (وليس سعد الحريري وتياره السياسي) يحتاج إلى إعادة إنتاج المشروع الوطني للرئيس الشهيد رفيق الحريري، بكلّ أبعاده ومندرجاته علّه يشكّل الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنانه الحبيب وشعبه الطيب من الموت المحتم، وهذا يحتاج إلى الأوفياء الخُلّص الذين آمنوا به، وليس من ركب موجة “الحريرية السياسية”.

شارك المقال