حدود الحرب تحولت الى حدود اقتصاد… ولبنان على حد الزلزال

ليندا مشلب
ليندا مشلب

تعود الموازنة الى رئاسة مجلس الوزراء مجدداً في الثامن من الشهر الحالي بعدما أمضت شهراً عند رئيس الجمهورية الذي رفض توقيعها مثلما فعل في السابق لاعتراضه على عدم إرفاقها بقطع الحساب، وبالتالي ستصبح نافذة فور صدورها في الجريدة الرسمية ومعها يفترض أن يدخل الدولار الجمركي الذي رفعته الحكومة الى ١٥ ألف ليرة حيز التنفيذ، أما باقي الأسعار المحددة على سعر ١٥٠٠ الرسمي فستبقى كما هي الى نهاية العام الجاري. لكن السؤال الذي ارتسم في الساعات الماضية: هل فعلاً سيرتفع الدولار الجمركي أم أن هناك قوى سياسية نصحت بالتريث الى حين القيام بعدة اصلاحات مالية واجتماعية تترافق مع الارتفاع؟

يقول مصدر حكومي: ان سعر الخمسة عشر ألف ليرة سيطبق على الاستيراد لسلع معينة فقط، اما باقي الرسوم فستبقى على الـ١٥٠٠ لأن أي قرار رسمي بهذا الشأن لم يصدر لا عن المالية ولا عن حاكم مصرف لبنان.

ويكشف المصدر لموقع “لبنان الكبير” عن سعي جدي يقوم به فريق رئيس الحكومة مع المالية لاصدار موازنة العام ٢٠٢٣ قبل بداية السنة المقبلة، موازنة تعتمد في أرقامها على سعر “صيرفة” وهو سعر transitoire يمهد للتوصل الى سعر الصرف الحقيقي أي سعر صرف السوق، بمعنى أن حسابات مشروع موازنة ٢٠٢٣ قائمة على سعر صرف واحد وموحد هو سعر “صيرفة” الذي يسجل حالياً بحدود الـ٣٠ ألف ليرة ما سيعتبر قفزة مخيفة في سعر دولار الموازنة.

وهنا يوضح المصدر، الذي شارك في الاجتماع الأخير الذي عقده الرئيس نجيب ميقاتي في السراي لبحث الوضع المالي والموازنة الجديدة قبل توجهه الى الجزائر، أن الرسوم ستعدل نسبها حتى لا تحدث قفزات كبيرة على المواطن كخفض نسبة ضريبة مثلاً من ٢٥ الى ١٥ بالمئة، فيصبح المتحرك هو معدل الضريبة، اما سعر الصرف فلا يمكن التلاعب به كما حصل على مدى ٢٢ عاماً والذي أردى الاقتصاد اللبناني عندما حدد على ١٥٠٠ ليرة، وكان هذا الاجراء هو قمة التلاعب بسعر الصرف الذي يحدده فقط العرض والطلب وتدفق الدولارات الى لبنان، فالمصارف المركزية والسلطة النقدية يمكن أن تتدخل لضبط السعر والحد من المضاربة في السوق فقط، أو اذا حصلت ظروف قاهرة سياسية أو غيرها وليس لتحديد السعر كما فعلنا على مدى سنوات، فنحن لسنا أهم من المصرف المركزي الأميركي أو الأوروبي أو الياباني التي لا تتدخل لتحوير سعر الصرف. لذلك يعد ترك الأسواق الحرة بنداً أساسياً في اصلاح الوضع النقدي، فمثلاً عندما تباشر شركة “توتال” بالتنقيب وتضع منصة العوامة للحفر platform ستذهب الى الاستعانة بشركات لبنانية للمساعدة من مقاولين وغيرهم، ما سيسمح بتدفق المال الخارجي ضمن الاستثمارات والأجانب الذين سيعملون في لبنان والتابعون لهذه الشركات سيعيشون هنا ويحركون العجلة الاقتصادية ويخلقون فرص عمل وهذا له تأثير كبير، كما يتوقع أن يعود قسم من المهاجرين اللبنانيين للعمل والمشاركة مع هذه الشركات. كل هذه الأمور محسوبة في المرحلة المقبلة بالاتجاه الايجابي بعد الترسيم لكن هذا لا يعني أننا سننهض مثل طائر الفينيق، على الاطلاق، ومن يقول هذا الكلام للبنانيين يغشهم، لأن النهوض يحتاج الى سنوات وسنوات، انما سنتحول الى جزر فيها مدن فقيرة ومدن عليها منصات gated communities ستكون في وضع جيد وستساعد في تدفق النقد الخارجي الذي نحن متعطشون له، وفي المستقبل بالتأكيد سنبيع النفط والغاز بعد ست سنوات لكن الافادة تبدأ في مدة أقصاها ٣٠ شهراً عن طريق بيع الأسواق الآجلة future markets والاستثمارات ستبدأ على الفور عند مباشرة التنقيب في أوائل العام المقبل وهذا هو الاقتصاد الحقيقي الذي يخلق الثروةforeign direct investment ، اما الأمر الآخر الذي لا يقل أهمية عن الترسيم فهو التحول النوعي في ماهية الحدود الجنوبية التي لم تعد خط حرب ligne Maginot انما خط اقتصادي من الجهتين (مد أنابيب ومنصات وورش عمل…) وهذا تغيير حقيقي وجرعة أساسية باتجاه السلم وتغيير الواقع الأمني الذي سيؤثر بصورة مباشرة على المنطقة كافة.

لكن هل فرملنا الانهيار؟

يقول المصدر: يشكل الاستثمار في قطاع النفط والغاز دعماً قوياً للاقتصاد اللبناني والاصلاح المالي والنقدي والمصرفي المؤسساتي فمساره منفصل. ان هذا الوقت صفر وساعة الانطلاق تحتسب بعد التوقيع مع صندوق النقد الدولي والذي ينتظر بعد قانونين (الكابيتال كونترول وقانون اعادة هيكلة المصارف) من الشروط الأربعة الأساسية المطلوبة من الصندوق لتحرير القسم الأول من الدفعة. لكن الحاكم بأمره غير المتحمس لا يريد صندوق النقد ويعمل كل ما من شأنه إبطال الاتفاق، مع العلم أن الأزمة على مدى السنوات الثلاث عملت على حل بعض الأمور تلقائياً، فالدين العام الذي كان يقدر بتسعين مليار دولار (البعض يقدره بـ ١٠٠ مليار دولار) ثلثه أي ٦٤ ملياراً، دين داخلي بالليرة اللبنانية، سندات خزينة على ١٥٠٠، أصبح هذا الدين مع انهيار الليرة يساوي ٤ مليارات دولار، اما الخارجي الذي يبلغ ٣٤ مليار دولار، فهناك ٣ الى ٤ مليارات منه للمقرضين المفضلين (preferred lenders) أي البنك الدولي والصناديق العربية وصندوق الاتحاد الأوروبي، لا يمكن التخلف عنها (يصفونها بأموال الوقف أو خبز اليتيم أو فلس الأرملة) وهذه الديون يدفعها لبنان ولا يتخلف عنها، اما اليوروبوندز وقيمتها ٣٠ مليار دولار فانخفض دولارها الى ٦ سنتات فأصبحت تعادل الملياري دولار وأقل، والنتيجة أن الـ ١٠٠ مليار دولار (الدين العام) انخفضت الى ١٠ مليارات، اما الودائع فموضوعها مختلف وهي المشكلة الكبرى، فكانت تقدر بـ ١٠٠ مليار دولار وأصبحت حوالي ٩٥ ملياراً، هذه الأموال استعملها مصرف لبنان لصالح الدولة، فلم يعد موجوداً منها سوى ٩ أو ٨ مليارات. هذه المشكلة تمت مقاربتها بسياسة توزيع الخسائر مع اعتماد مؤسسة ضمان الودائع التي تعيد مبلغ حُدد بـ ١٠٠ ألف دولار من قيمة الوديعة والمتبقي (لمن يملك وديعة تفوق الـ١٠٠ ألف دولار) سيسدد بالليرة اللبنانية على سعر صرف مستقر يقارب القيمة الحقيقية للدولار وجزء منها أسهم في المصارف القابلة للاستمرار بعد اعادة هيكلتها، وهذه الأسهم لها سوق سنوية يستطيع من خلالها التداول فيها. هذه الحلول التي وضعت داخل خطة التعافي والاصلاح في المالية العامة التي يتنكر لها بعض النواب، مؤلفة من ٣٣ صفحة قاربت الحلول لكل الأزمة المالية والنقدية ووزعت على النواب في التاسع من أيلول الماضي (تتضمن اعادة هيكلة الدين العام واصلاح المالية العامة، زيادة الضرائب وتخفيف العجز، توحيد سعر الصرف وتحريره، اعادة النظر في قانون النقد والتسليف، تقوية هيئة الرقابة على المصارف، استقلالية هيئة الأسواق المالية عن مصرف لبنان، انتزاع الصلاحية من مصرف لبنان في اعطائه الحق بطبع أموال لتمويل الدولة، إصلاحات هيكلية في مقدمها اصلاح القطاع العام، التدقيق في مؤسسات القطاع العام، الكهرباء والمرفأ والكازينو والميدل ايست والتبغ… استقلالية القضاء واعادة هيكلة القطاع المصرفي…) اما خطة التوازن المالي فهي جزء من قانون اعادة هيكلة المصارف وتتعلق بكيفية التعاطي مع الودائع وتدمج لاحقاً مع القانون.

ومن يسأل عن توقيت تنفيذ الخطة؟ الجواب عندما يقر القانونان المتبقيان، “الكابيتال كونترول” واعادة هيكلة المصارف لينضما الى الشروط الأربعة مع الموازنة ورفع السرية المصرفية، واذا لم نوقع مع الصندوق فلا نهوض. الاستثمارات الخارجية التي فتح بابها الترسيم هي عامل مساعد في دخول الاحتياط الأجنبي لكنها ليست الحل خصوصاً أن الكميات الموجودة ونوعيتها غير معروفة ولا نعرف قيمة هذه الموجودات. كما أننا لا نعلم بعد ٦ سنوات كيف وكم ستكون قيمة الغاز بعدما اكتشفت أوروبا أنها تحت رحمة الغاز الروسي وبدأت تحول مصادر الطاقة لديها نحو الطاقات البديلة والاستثمار في المحطات النووية بانتاج الطاقة النووية. والخلاصة، لا يجب الانتظار والاتكال على النفط والغاز واعتبارهما بديلاً من الاصلاحات ومن صندوق النقد وهذا أمر خطير جداً. صحيح أن هذا القطاع هو أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد المنتج الذي يدر عملة أجنبية، انما الجسم الاقتصادي مريض وخط الشفاء معروف، فالذهب الأسود لن يحل المشكلة وليس بديلاً من البرنامج، والمصرف مستمر بالنزف من أموال المودعين وبعد أشهر قليلة نكون قد استنفدنا الاحتياط، فكيف نستورد؟ والحديث أنه بعد انتهاء العهد ستتغير أحوال الدنيا هو كلام سياسي، اما الحقيقة والواقع فيؤكدان أن الأمور لا تزال على سلبيتها والخلاف السياسي الذي يرتفع منسوبه سيزيد من تفاقم الوضع طالما أن القرار الداخلي لم يتوحد بعد بضرورة البدء بعملية الانقاذ.

شارك المقال