لولا الطائف!

صلاح تقي الدين

لا شك في أن المبادرة التي أطلقتها سفارة المملكة العربية السعودية في بيروت بشخص سفير خادم الحرمين الشريفين وليد بخاري لعقد مؤتمر إحياء الذكرى الـ33 لإبرام اتفاق الطائف، تجدّد التأكيد على الاهتمام الخاص الذي تبديه المملكة بلبنان وأنها لم تتركه يوماً لتعود إليه كما يحاول المغرضون الايحاء به.

وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً على إبرام هذا الاتفاق الذي أضحى دستوراً للجمهورية اللبنانية، كثيرة هي الأسئلة التي طرحت حول أهميته وما إذا كان جرى تطبيقه نصاً وروحاً، غير أن السؤال الأكثر أهمية الذي يطرح هو ماذا لو لم تبادر اللجنة العربية الثلاثية إلى الدعوة لعقد هذا المؤتمر، وماذا كانت ستكون عليه الحال لو لم يتم التوصل إلى الاتفاق؟

لقد كانت مداخلة رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في المؤتمر والتي استعاد من خلالها الظروف التاريخية التي أنتجت الاتفاق من الأهمية بمكان، إذ أوضحت المسار العسكري الشائك الذي كان يعيشه لبنان نتيجة “احتلال” قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون قصر بعبدا والحروب العبثية الخاسرة التي شنّها والتي أحدثت دماراً لم يشهد لبنان مثيلاً له “إلا على يد الاحتلال الاسرائيلي” كما قال، والذي أوجب اتخاذ إجراءات “استثنائية” لتعديل الواقع السائد، ومنها معركة “سوق الغرب”.

ويترافق السؤال عن أهمية اتفاق الطائف مع التساؤل حول ماذا كان ليصبح عليه البلد لو استمر عون “متمترساً” في بعبدا ومانعاً لانعقاد مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية، علماً أن المهمة التي أوكلت إلى عون من خلال “ترئيسه” حكومة انتقالية كانت تأمين انعقاد المجلس لانتخاب رئيس ولا شيء آخر.

لا شك في أن العبثية التي وسمت إدارة عون للشؤون “الرئاسية” عبر الحكومة الانتقالية والمسار التعطيلي الذي مارسه كانت لتودي بالبلاد إلى ما لا تحمد عقباه، واستمرت عبثيته وتعطيله حتى اليوم الأخير من سكنه في بعبدا قبل أن تخرجه غارات “السوخوي” السورية ويتوصل إلى تسوية تنص على نفيه لمدة 15 عاماً من لبنان.

وفي الوقت الذي كان عون يعلن فيه “عصيانه” على الدستور ويمارس كل أنواع الترهيب بحق النواب الذين كانوا يقيمون في المناطق الواقعة تحت سيطرته، تقاطعت الظروف الدولية أمام ضرورة انهاء هذه الحالة وتحركت اللجنة الثلاثية العربية وأمّنت انتقال النواب المنتخبين في دورة العام 1972 والذين استمروا في التجديد لولايتهم لعدم إمكان إجراء انتخابات نيابية بسبب الحرب، إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية، للبحث في صياغة اتفاق ينهي الحرب الأهلية المستمرة من 15 سنة، والأهم وضع صيغة جديدة تؤكد العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، وصياغة تعديلات دستورية تعيد التوازن الذي كان مفقوداً ما قبل الاتفاق.

وكانت الوثيقة التاريخية التي اعتقد المشرّعون أنها صاغت بنودها لكي يقوم بتطبيقها رجال دولة من الطراز الأول، ولم يكن يجول في خاطرهم إمكان أن تتولى شخصيات سياسية على طراز عون وصهره جبران باسيل تفسير هذه البنود على طريقة “غب الطلب” واستناداً إلى فتاوى يضعها المستشار الأول في قصر بعبدا والتي تكون وفقاً لأهواء “الثنائي التعطيلي”.

لقد عارض عون هذا الاتفاق جهاراً ولم يخفِ امتعاضه منه أولاً لأن المشرّعين لم يتفقوا على انتخابه رئيساً للجمهورية، وثانياً لأن الاتفاق انتزع صلاحيات الرئيس “الماروني” ووضعها في يد مجلس الوزراء برئاسة المسلم السني في محاولة مكشوفة لاستثارة الحس الطائفي والمذهبي لدى الفريق المسيحي في لبنان.

لكن لسوء الحظ اللبناني، فإن المجتمع الدولي وبعد الخطأ التاريخي الذي ارتكبه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين باحتلال دولة الكويت، أراد مكافأة النظام السوري والرئيس الراحل حافظ الأسد الذي دخل في التحالف الدولي لتحرير الكويت، فأوكله إدارة شؤون لبنان من خلال السماح لقواته بالبقاء فيه والتحكم بإدارة سياسته، وكان منها تطبيق الاصلاحات الواردة في اتفاق الطائف وفقاً لما يراه مناسباً، فكان التطبيق انتقائياً ولم يكن مكتملاً، ولهذا السبب يطالب “السياديون” اليوم بتطبيق الطائف نصاً وروحاً قبل التفكير في تغييره أو تعديله.

وكان واضحاً في مؤتمر قصر “الأونيسكو” أن غالبية اللبنانيين لا تزال تتمسك بهذا الاتفاق وترفض مجرد التفكير في تعديله، وقد بدا ذلك واضحاً من مداخلات المشاركين في المؤتمر.

لكن ماذا لو لم يتم التوصل إلى اتفاق الطائف في حينه؟ لكان الدمار استمر، ولكانت ظروف العودة إلى الحياة الطبيعية في لبنان صعبة إن لم يكن مستحيلة، وربما كانت قد تحققت غايات العدو الاسرائيلي بإنشاء كيانات طائفية على حدوده الشمالية، وغايات النظام السوري في استعادة لبنان وجعله إحدى محافظاته، ولكانت انتفت الرسالة التي ميّزت وجود لبنان.

لا بديل عن الطائف، ولتكن الدعوة إلى تطبيقه هي الهدف الذي سيسعى إليه الرئيس المقبل للجمهورية متى انتخب، والعمل الرئيس لمجلس النواب الذي يتوجب عليه وضع القوانين الاصلاحية التي نص عليها اتفاق الطائف من اللامركزية الادارية إلى إنشاء الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية إلى انتخاب مجلس للنواب خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس للشيوخ يراعي هواجس الطوائف.

وقد يكون من الضروري أيضاً إكمال تنفيذ الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي من حيث إقرار القوانين الاصلاحية المالية وصولاً إلى توقيع الاتفاق النهائي معه، لأنها السبيل الوحيد لاستعادة الانتظام المالي والاقتصاد إلى البلد وبدء انتشاله من قعر جهنم الذي أوصلنا إليه ميشال عون وعهده “القوي”.

شارك المقال