جمهورية… مع وقف التنفيذ!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

…ويستمر عرض مسرحية الانتخابات الرئاسية على مسرح ساحة النجمة للمرة الخامسة على التوالي، على الرغم من ركاكتها وسخافة فكرتها القائمة للأسف على مقولة “الزعيم والجمهور عايز كده” – والجمهور هنا بالطبع هو جمهور الزعيم المُلهَم وكل جمهور بما لديهم فرحون – وليس الجمهور العام بأغلبيته، الذي تعب حتى الملل من مسرحيات كهذه يدفع فيها الكثير من ماله وحياته حاضراً ومستقبلاً، في “دولة” تحولت إلى جمهورية مع وقف التنفيذ، بعد أن إستولت عليها جماعات هي إلى “العصابة” أقرب وأبعد ما تكون عن الأحزاب المتعارف عليها في الدول المتحضرة، بإسم التحديث والعدالة تارةً والتحرير والتغيير تارةً أخرى، فكان أن حولتها إلى “دويلات” قبل أن تذوب هذه بدورها وتتحول إلى “دويلة” واحدة يقودها حزب قائد يقوده مرشد، يوزع المسؤوليات على الآخرين من وراء حجاب، لتذوب بعدها الدويلة وتتحول إلى ما يشبه “البلدية”، بحيث لم يعد يتم التعامل معها ومع مسؤوليها عبر الدول والرؤساء، بل عبر السفارات والسفراء أو حتى الموظفين فيها، الذين يتنقلون بين المقرات لتسجيل طلبات التسول والعودة بخارطة طريق للتنفيذ، على مسؤولي “البلدية” الالتزام بها مسبقاً حتى يُنظر بتلبية هذه الطلبات.

لعل أفضل وصف لطريقة سير الأمور في هذه الدولة – البلدية ما ردَّ به الرئيس نبيه بري المتربع اليوم على كرسي “الحاكم” فيها، على سؤال للنائب سامي الجميل حول المادة التي يستند إليها في الدستور لإحتساب نصاب الثلثين في الدورة الثانية لانتخاب رئيس الجمهورية، حيث رد الرئيس بري بـ “هضامته” المعهودة قائلاً: “مادة إجريها من الشباك”، وهي جملة تنسب الى أحد القضاة في الستينيات في رده على أحد المحامين الذي سأله عن المادة التي يستند إليها في القانون ليتهم موكلته بأنها تمارس الدعارة، فكان هذا الرد من القاضي “النبيه” بمعنى أن فِعلها كان فاضحاً وعلنياً ولم يعد بحاجة إلى دليل، وفعلاً هذه الدولة – البلدية لم تعد بحاجة الى مواد دستورية تستند إليها، لأن فعلها “الفاضح” بات علنياً ولم تعد بحاجة إلى أدلة لتؤكد فشلها و”عُريها” السياسي والأخلاقي.

لقد بات كل شيء في هذه الدولة – البلدية غريباً وضد المنطق، لهذا أصبحنا مسخرة الأمم والشعوب، حتى إنتخابات الرئاسة وهي المفروض أنها إنتخاب لأعلى سلطة في البلاد وهي السلطة التي ترمز الى السيادة والاستقلال والوحدة الوطنية جعلناها مسخرة، حيث لا مرشحين ولا برامج يسعون الى تسويقها لدى النواب الموكل إليهم تمثيل مصالح الشعب ونقل صوته ورغباته إلى السلطة التنفيذية وإنتخاب رئيس يمثل طموحات الناس، بل أشباح نسمع عنها ولا نراها، وكأن الترشح لرئاسة الجمهورية يدخل في نطاق العيب الذي يتجنبه المسترئسون في العلن، بينما هم يسعون إليه وما أكثرهم في السر. وكما المرشحون – الأشباح كذلك النواب، فعوضاً عن أن يذهب هؤلاء النواب إلى المجلس لممارسة دورهم الطبيعي في التشريع والمراقبة والانتخاب، نراهم يمارسون هواية النكد السياسي والتعطيل المؤسساتي، وكذلك اللعب بمصير البلد والناس عبر التصويت إما بأوراق “بيضاء” شكلاً سوداء فارغة مضموناً، وإما التصويت بالرمز وهو غباء ما بعده غباء، وهم بذلك إنما يؤكدون المؤكد بأنهم لا “يقدحون” من رؤوسهم الفارغة أصلاً، وإنما ينتظرون التعليمة من أسيادهم وأُولي نعمتهم السياسية والمالية عبر “بيع” أصواتهم لمن يدفع أكثر في سوق النخاسة السياسية، تباً لهم.

إن إعادة بناء الجمهورية والخروج من حال الإنهيار – إن كان هذا هو الهدف كما يدَّعون – بحاجة أولاً إلى رجال دولة بكل ما للكلمة من معنى، من حيث إحترام الذات أولاً والعمل على بلورة مشروع حكم والسعي إلى تطبيقه عبر محاولة التعاون الإيجابي مع المكونات الأخرى تحت سقف الدستور، والقدرة على التواصل مع قادة العالم بإحترام وثقة، ومن ثم إحترام الدستور والسهر على حسن تطبيق القوانين، والسعي إلى حسن سير المؤسسات بغض النظر عن المصالح الشخصية، وليس لـ “غلمان” سفارات من هنا وهناك، عقولهم فارغة وقلوبهم “فيها مرض” ينتظرون الأوامر والتعليمات من الآخر، وينقلبون على الثوابت متى إقتضت مصلحتهم ذلك، لا يدرون متى يُقدمون ولا متى يتراجعون، يُضمرون عكس ما يقولون، ويقولون غير ما يفعلون، هذه النوعية من البشر هي التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم إبتداءً من العام 1998 تاريخ إستبدال وجه النظام المدني بوجه عسكري – أمني، عندما وصل هؤلاء إلى الحكم وهم يمتطون صهوة أحقادهم، وبدأوا بعرقلة مسيرة البناء التي خاضها بكل شجاعة وإقدام الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشركاؤه في الداخل والخارج، والتي حققت المعجزة بأقل من ست سنوات أعادت فيها للوطن رونقه وبسمته وسمعته بين الدول، فكان أن تسلموا البلد من رفيق الحريري وإلياس الهراوي بأبهى صوره، ليسلموه بعد إنتهاء عهدهم والتمديد بلا رفيق الحريري بلداً أعادوه إلى الحرب الأهلية الباردة، وقد أعادوا تقسيم شعبه إلى طوائف ومذاهب، وإستبدلوا الوصاية بأخرى جديدة عبر إستعمال السلاح في الداخل ليتحول النظام مرة أخرى إبتداءً من العام 2008 إلى نظام ميليشيوي هذه المرة يتلطى خلف رئيس عسكري لا حول له ولا قوة بإسم التوافق، ومن ثم إتباع سياسة التعطيل التي أدت في النهاية لتسليمه إلى “العهد القوي” الذي ينتمي هو بدوره إلى “المدرسة” نفسها، فكان أن سلَّمه هو الآخر إلى الفراغ الحاصل اليوم على طريقة “ومن بعدي الطوفان”، بعد أن حوَّله إلى “جمهورية مع وقف التنفيذ ” برتبة بلدية حتى إشعار آخر، لا يعلم مداه إلا الله والراسخون في علم التعطيل السياسي.

شارك المقال