شروط نصر الله الرئاسية نسفٌ نهائي لوفاق “الطائف” 

عبدالوهاب بدرخان

لا يُفهم من السجال الدستوري العابر، خلال الجلسة الخامسة الفاشلة لانتخاب رئيس جديد، سوى أن هذا الاستحقاق الدستوري الأهم لا يخضع للدستور. أين يتقرّر هذا الحُكم؟ في مجلس النواب، المسمّى “سيّد نفسه”. مَن أصدر هذا الحُكم؟ “حزب الورقة البيضاء” الذي أفرزه التصويت كممثّلٍ لائتلاف “الثنائي الشيعي” (“حزب إيران/ حزب الله” وحركة “أمل”) مع “التيار العوني” وتيار “المردة” وعدد من المستتبَعين. وماذا يريد هؤلاء؟ ظاهرياً يُشهرون فضيلة “التوافق” بحثاً عن مرشّح رئاسي واحد يُخرجهم من ورطة “الورقة البيضاء” وورطة انكشافهم بلا مرشّح ولا موقف وورطة تعطيل الاستحقاق، وواقعياً يحتاجون الى تصفية نزاعاتهم وخلافاتهم وبناء ثقة في ما بينهم والاطمئنان الى مصالحهم قبل “التوافق” على المرشّح الذي يضمن لهم تلك المصالح. لكن هؤلاء جميعاً ينتظرون عملياً خيار “حزب إيران”، فهو من سيبلغهم كلمة السرّ في نهاية المطاف، وقد أوهمهم فرادى وجماعات أنه يفاوض بالنيابة عنهم، لكنه يفاوض بشروطه ومن أجل مشروعه، مشروع إيران.

الواضح أن هذا “الحزب” ليس متمتعاً هذه المرّة بغالبية نيابية ولا بأرجحية سياسية ولا بحليف مسيحي “قوي” ولا بقبول خارجي على الرغم من تقديمه أوراق اعتماده عبر اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. حساباته مختلفة عمّا كانت في 2014 – 2016 عندما حشر الخصوم وأجبرهم على قبول مرشّحه، ميشال عون، ودفع الأخير الى خدعة “التسويات” مع هؤلاء الخصوم، لتسهيل وصوله الى قصر بعبدا، فأغرى “القوات” بتقاسم النفوذ المسيحي بعد تفاوض مديد انتهى بالتوقيع على اتفاق مكتوب لم يلبث أن نقضه، ثم أغرى “المستقبل” بالتنازل وقبول “اتفاق الطائف” كعنوان عامٍ بعد تفاوض متقطّع فحصل على المنصب واستغلّه باستمرار لتهشيم “اتفاق الطائف” نصّاً وروحاً، دستوراً ووفاقاً وطنياً وتعايشاً مشتركاً، واستحقّ أعلى الاشادات من زعيم “الحزب” حسن نصر الله وسط ابتسامات وتعليقات ساخرة من المحازبين الذين يعرفون أن المكاسب تبقى أكبر من إشادات يتلقاها الجمهور بسخرية أكبر.

لم يهتم عون ووريثه المعلن إلا بتقاسم السلطة والقرار مع “حزب إيران” الذي راعاه في كل تهوّراته، وتشارك الاثنان في إدارة انهيار الدولة والاقتصاد والنظام المالي وتهميش “اتفاق الطائف” لقاء أن يحافظ كلٌّ منهما على مصالحه. لكن مصالح عون تخضع لمحاسبة مسيحية وغير مسيحية كونها تفرّط بمقوّمات البلد، أما مصالح “الحزب” فهي مكرّسة لنيل رضا المرشد الإيراني وتخضع فقط لقواعد الاستقواء بالسلاح غير الشرعي. غير أن هذه المعادلة لم تعد صالحة لتأمين “استمرارية العهد” بعد انتهاء ولاية عون والأعطاب الجسيمة التي أصابت وريثه داخلياً وخارجياً. إذ لا يمكن إجبار أي رئيس أو اقناعه، ولو “توافقياً، بتنازلات مسبقة تلبّي في آنٍ شروط “حزب إيران” للحفاظ على هيمنته وشروط باسيل للحفاظ على نفوذه المسيحي. وبالتالي فإن نصر الله، الذي مجّد عون “رجلاً شجاعاً لا يباع ولا يشترى ولا يخاف”، سيضطر إمّا الى “بيعه” إذا أراد الانتهاء من الشغور في أسرع وقت وقبل أن يرتدّ عليه هذه المرّة، أو الى “شرائه” برعاية ميليشيا “الحرس القديم” وتدريبها وتسليحها وتأهيلها لمهمات خاصة تؤمّن هيمنة “عونية” على المناطق المسيحية.

بالنسبة الى “حزب إيران” و”التيار العوني” لم تكن هناك أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية، ولا حتى سياسية، في لبنان. بل كانت هناك “مؤامرة” عليهما، مجتمعَين ومنفردَين. لم يعترفا بأي مسؤولية عما حصل، ولم ينظرا الى أي تطوّر كـ “انتفاضة 17 تشرين” مثلاً بأنه يستوجب تصويب سياستهما. ربما صحّ ذلك لـ “الحزب” لأنه رتّب أموره ليربح من حلفائه وخصومه، كلما أخطأ عون، وكلما تلقى أي من حلفائه عقوبات أميركية، وكلما تمكّن باسيل أو أتباع آخرون من إشعال أزمة مع دولة عربية أو أجنبية، وكلما نجح في إيصال شحنة كبتاغون الى هدفها وحتّى كلما اكتُشفت شحنة قبل وصولها أو بعده. وكان “الحزب” سيكسب لو أخفق اتفاق الترسيم في إبقاء الحدود متوتّرة، ويعتبر نفسه كاسباً باستدراج الأميركيين والإسرائيليين الى اعتراف ضمنيّ بمساهمته في انجاز الاتفاق، فلن يستطيع أحد أن يمنعه لاحقاً من الحصول على أكبر حصّة من عائدات الغاز والنفط، ومن التحكّم بتوزيع الحصص الأخرى.

انطلاقاً من ذلك لا يمكن أن “يمشي” نصر الله إلا برئيس يسمع كلمته وينفذها، وهو يمثّل الآن أنه داعية توافق، لكنه ينتظر موافقةً على مرشّحه قبل أن يبدأ بمفاقمة الأوضاع… وحين يقول إنه يريد رئيساً “غير خاضع لأميركا” و”مطمئِن للمقاومة” فإنه يحدّد شروطاً تنطبق على أحد حليفيه، سليمان فرنجية وجبران باسيل فقط، ويكفي أن يكون أي سياسي “مرشح نصر الله” ليبدأ طريقه محترقاً، إذ لا يمكن تكرار فصول المسرحية التي جاءت بميشال عون.

لكن شروط نصر الله هي الرد المباشر على “مؤتمر اتفاق الطائف” في الأونيسكو، الذي اعتُبر على نطاق واسع مؤشّراً لعودة السعودية الى لبنان. فبعدما تبرع “نائبه” نعيم قاسم وعدد من أتباعه بأن “الحزب” لم يكن يوماً ضد “اتفاق الطائف” الذي لم يروا فيه سوى شرعنة “المقاومة” باستثناء سلاحها حين كان موجّهاً ضد الاحتلال الإسرائيلي، أراد نصر الله التذكير بأن “الحزب” كان دائماً ضد الوفاق الوطني الذي رعاه ذلك الاتفاق وعادت ملامحه الى الظهور من خلال الحضور في فعالية الأونيسكو. فالسعودية كانت معنية بذلك الوفاق أولاً وأخيراً، ومن خلاله تبدو معنية الآن باستنهاض الدولة وتهيئة الظروف لإنقاذ لبنان، أما “المقاومة” وأهدافها فانكشفت تماماً كعنوان للتأزيم والتخريب لا للإنقاذ وإعادة الإعمار.

شارك المقال