هجرة السوريين!

اكرم البني
اكرم البني

اللافت اليوم هو تنامي الرغبة والبحث المحموم لدى غالبية مجتمع الداخل السوري، للهجرة والهرب من البلاد وطلب اللجوء الانساني حيث يحط بها الرحال، وهو أمر يأتي بالتعارض مع ظواهر وأسباب متنوعة يفترض بها أن تلجم هذه الرغبة ولنقل هذا الخيار، من أهمها:

أولاً، انحسار الدعم الأممي الانساني والمعونات الاغاثية للاجئين السوريين، وتراجع الاهتمام بأوضاعهم الصحية والتعليمية، بحيث باتت المؤسسات الدولية المعنية بملفهم ضعيفة وعاجزة، أمام حدود إمكاناتها وأمام تنامي الحروب والصراعات في غير مكان من العالم والذي أدى الى زيادة لافتة في أعداد اللاجئين وخصوصاً الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها.

ثانياً، صعوبة الفرار من الداخل السوري إن من مناطق سيطرة النظام أو المعارضة وفصائلها المسلحة، والذي بات في أحيان كثيرة يقود إلى الموت المحتم، وهو ما أثاره تكرار بعض الظواهر المؤلمة، من مشاهد موتهم الجماعي غرقاً، ومن تشردهم وضياعهم في الجبال والغابات، ومن سرقة ما يملكونه من لصوص ادعوا القدرة على إخراجهم من البلاد وإيصالهم إلى إحدى الدول الأوروبية.

ثالثاً، لم يعد ثمة ترحيب كان يلقاه السوريون في أهم البلدان وخصوصاً الغربية، فكيف الحال مع تمدد اليمين الأوروبي الشعبوي وخطابه المعادي للاجئين والمهاجرين، متوسلاً تعثر دمج الكثيرين منهم في مجتمعاته، ومتوسلاً أيضاً الاندفاعات المخلة بالأمن الاجتماعي التي أقدم عليها بعضهم، ومنها استسهال إرهاب الناس أسوة بما تمارسه الجماعات الجهادية؟

رابعاً، ما أثاره ضغط كثرتهم على مجتمعات الجوار السوري من تداعيات ومن تغير في المناخات السياسية والانسانية لتقبلهم ومساندتهم، ربطاً بتصاعد الأصوات الداعية في تلك المجتمعات الى التحرر من تحمل مسؤوليتهم وإعادتهم الى بلدهم من دون اعتبار لغياب الحد الأدنى من مقومات الأمن والعيش والسلامة، أو لممارسات القهر والتنكيل التي دأب عليها النظام السوري في التعاطي معهم على مرأى العالم بأسره. ففي لبنان يبدو جلياً أن “حزب الله” وحلفاءه يشحذون أسلحتهم للضغط بأشكال متعددة من أجل تسريع عودة اللاجئين إلى بلدهم، مستثمرين المبالغات في ما يرافق تداعيات اللجوء في المستويات الأمنية والاقتصادية، تتوج الأمر بموجة من التصريحات تتعمد، زوراً وبهتاناً، تحميلهم مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع المعيشية في لبنان من تدهور وفساد. أما في تركيا فقد صار لافتاً توجه النخب السياسية، الى توظيف هذا الملف في الانتخابات التشريعية المقبلة بعد أن أظهرت استطلاعات الرأي تنامي الميل الشعبي الرافض للاجئين السوريين والذي يحملهم مسؤولية مشكلات تركيا الاقتصادية، انعكس الأمر بما نشهده من تشديد حكومة أنقرة رقابتها على شروط حياتهم وحركتهم، وتكرار حدوث الاعتداءات التمييزية ضدهم، من أوساط لا تحبذ وجودهم أو متضررة منهم.

والحال، على النقيض مما سبق، يبدو أن الرغبة لدى غالبية السوريين، أينما كانوا، لا تزال تتنامى للفرار والبحث عن مكان للجوء والهجرة، يحدوها شيوع إحساس عام بانسداد الأفق وانعدام الأمل بخلاص قريب، أو على الأقل باستعادة حياة عامة تهتكت مقوماتها، فكيف الحال وثمة يقين عندها بأن القادم سيكون أسوأ… إن بالعجز عن توفير أبسط مستلزمات العيش، كالغذاء والكساء، وإن بصعوبة التكيف مع شح الماء والكهرباء ووقود التدفئة، وإن بتراجع الخدمات التعليمية والصحية وفقدان فرص العمل؟ وكيف الحال وقد بات هاجس معظم الشباب الهروب من العنف والاقتتال، والذي إن توقف بعض الوقت، يعود أقوى وأشد شراسة، تحدوه حالة قلق وخوف عامة من انحسار شروط الأمن والسلامة، بحيث غدا حامل السلاح هو الآمر الناهي ويمكنه من دون مساءلة، تقرير كل ما يتعلق بمصير الناس وحيواتهم وممتلكاتهم، وتتواتر يومياً الحكايات عن حجم تعديات المسلحين وتنوع تجاوزاتهم، إن كانوا من النظام أو المعارضة، وعن مواطنين أبرياء، يتعرضون ولأسباب تافهة، للإذلال والابتزاز والأذى وحتى القتل، من دون أن يطال المرتكبين أي حساب أو عقاب؟ فأي خيار يبقى، حين تقتل فتاة لمجرد أنها زجرت مسلحاً حاول استمالتها، وحين تعجز عائلة عن تأمين فدية لاسترداد طفلها المخطوف، وعندما يرى شاب زميله يفارق الحياة في الحي أو المدرسة أو الجامعة، جراء شظايا القذائف من دون أن يتمكن من نجدته، وحين تستسهل الامارة الاسلاموية محاصرة أو طرد كل مختلف دينياً أو مذهبياً، وتسوغ لنفسها إنزال أشد العقوبات بمن تجدهم في عرفها قد خالفوا “شرع الله”، أو حين يجنّد الأطفال الصغار قسراً ويزج بهم كوقود لتسعير القتال في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟!

صحيح أن بدايات هروب السوريين من بلدهم ترافقت مع تصاعد العنف المفرط ضد المدنيين، إن بالإمعان السلطوي في الفتك والتنكيل، وإن بما تمارسه جماعات إسلاموية متشددة من تسلط وقهر، لكن الصحيح أيضاً أن العنف الذي كان أشد وقتئذٍ، لم يخلق هذه الرغبة العارمة في الهجرة كالتي نراها الآن، ربما لأن السبب يكمن في أن الصراع الدموي قد طال وأرهق الناس ودمر ما تبقى من مقومات عيشهم، وربما لأن ما كان محتملاً كمحنة مؤقتة لم يعد يحتمل على المدى البعيد، فكيف الحال مع تكاثر أعداد الشباب الذين يجدون الهرب والهجرة فرصة لتجنب الالتحاق بالخدمة الاجبارية السلطوية أو بالتعبئة العسكرية للجماعات المسلحة على اختلاف مرجعياتها، دينية كانت أم قومية؟ وكيف الحال مع انتشار عدوى لدى غالبية الأسر السورية في تشجيع أبنائها، على الهجرة كي تجنبهم الأذى والغرق في مستقبل أسود، على أمل أن يضمن لهم هذا الخيار حياة آمنة ومستقرة؟ وكيف الحال عند أصحاب الكفاءات الذين أدركوا عدم جدوى تحصيلهم العلمي مع غياب الامكانات المرجوة في بلدهم لممارسة اختصاصاتهم عملياً، أو عند ناشطين مدنيين ضاقت بهم السبل مع سيطرة لغة السلاح وباتوا مهددين من كل الأطراف؟

واستدراكاً، فإن رغبة الغالبية في الهرب من بلدها وطلب اللجوء سوف تتنامى وتنذر بتفاقم عذابات ومعاناة لا يمكن الحد منها ومعالجتها معالجة صحية، إلا بتحقيق انتقال سياسي ترعاه الأمم المتحدة يلبي تطلعات السوريين وحقوقهم ويتمسك بالمعايير الدولية لعودة اللاجئين، كعودة طوعية من دون إكراه، مع توفير الحماية والأمن وكل الشروط الكفيلة بتلبية مختلف احتياجاتهم الانسانية.

شارك المقال