الورقة البيضاء في الزمن الأسود

زياد سامي عيتاني

دخل لبنان في مرحلة من الفراغ الرئاسي والحكومي معاً، بعد إنتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، وبالتالي عدم تمكن مجلس النواب من القيام بواجبه الدستوري في إنتخاب خلف له وفقاً للمهل المحددة، بسبب الانقسامات السياسية، كما لم تثمر مساعي رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي قبل إنقضاء عهد عون في تشكيل حكومة منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت في منتصف أيار الماضي، كي تنتقل إليها مجتمعة صلاحيات الرئاسة الأولى، طيلة فترة شغورها.

ففي لبنان الذي يقوم نظامه على تقاسم الحصص بين المكونات السياسية والطائفية، بات تأخير التوافق على إنتخاب رئيس للجمهورية ظاهرة مألوفة ومعتادة، وكان آخرها عندما انتخب عون في تشرين الأول عام 2016، بعد شغور رئاسي دام لأكثر من عامين.

ومن المرجح بإجماع المراقبين أن تطول فترة الفراغ، جراء الانقسامات والتعقيدات اللبنانية، معطوفة على غياب التوافق بين عواصم القرار على مرشح رئاسي يحظى بإجماعها، مما يزيد إنتخاب الرئيس العتيد صعوبة، فيطول معه الشغور والشلل في عمل المؤسسات الدستورية، في وقت يشهد فيه لبنان منذ العام 2019 انهياراً اقتصادياً صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم، خسرت معه العملة المحلية نحو 95 في المئة من قيمتها.

كما ترافقت تلك الأزمة مع شلل سياسي حال حتى الآن، دون إتخاذ تدابير تحدّ من التدهور وتحسّن من نوعية حياة اللبنانيين الذين يعيش أكثر من ثمانين في المئة منهم تحت خط الفقر.

وعلى الرغم من دعوة رئيس مجلس النواب الهيئة العامة الى إنتخاب رئيس جديد للبلاد، على قاعدة أن إلتزام النواب بالمشاركة في إنتخاب رئيس للجمهورية، هو مجرد حق دستوري فحسب، بل هو قبل ذلك في ظل وضع البلد المتأزم سياسياً والمنهار اقتصادياً، موجب وطني ودستوري وأخلاقي لهم، وإلا إعتبروا مخلين بواجبهم الدستوري والوطني معاً، غير أن البرلمان فشل في إنتخاب رئيس جديد للبلاد في جولات التصويت، التي جرت في ظل إنقسامات عميقة عكسها غياب التوافق على اسم خلف للرئيس عون، مما دفع غالبية النواب الحاضرين الى الاقتراع بـ”أوراق بيض”، فحصدت “فخامة الورقة البيضاء” غالبية الأصوات (!) ليبقى الفراغ الرئاسي سيد الموقف، ما يشير إلى أن العملية الانتخابية ستستغرق وقتاً طويلاً على الأرجح، الأمر الذي يزيد من تعقيدات الوضع في لبنان.

كثيراً ما نسمع ونشاهد تقديم أوراق بيض أثناء إنعقاد جلسات التصويت في الانتخابات، إلا أن الكثيرين لا يعرفون ما معنى تقديم هذه الورقة وما هو موقف القانون منها؟

فثقافة الورقة البيضاء منتشرة في كثير من البلدان الديموقراطية، وهي في الأساس عملية إحتجاج سلمي لرفض إنتخاب المعني بالتصويت.

وقد ظهر أسلوب الاقتراع بالورقة البيضاء أو الملغاة كشكل إعتراضي في القرن التاسع عشر، فبينما قامت الدول الأوروبية بوضع معايير صارمة لتحديد الأوراق المحتسبة كأصوات “صحيحة”، كان كثيرون يقومون بالتعبير جماعياً عن إعتراضهم على المرشحين عبر كتابة عبارات إحتجاجية قاسية على الأوراق الانتخابية. ففي دراسة عن إنتخابات عام 1881 في فرنسا، وجد باحثان فرنسيان أن نسب الأوراق الملغاة بلغت 20 في المئة في بعض المناطق الفرنسية، وقد احتوت هذه الأوراق على إنتقادات لاذعة لجميع السياسيين، كأسلوب إعتراضي على أدائهم وقلّة وفائهم بالوعود التي كانوا يطلقونها أثناء الحملات الإنتخابية.

ومع الوقت، أخذت هذه الحركة الاعتراضية تشكل مظهراً قانونياً من مظاهر الانتخابات، فبدلاً من إعتبارها أصواتاً ملغاة، بدأت الدول تعتبر الأصوات البيض بمثابة إمتناع عن إعطاء الثقة لأي من المرشحين. لذلك، أصبح إحتساب هذه الأصوات حقاً من حقوق المواطن لإحصاء صوته عند رغبته بالمشاركة في العملية الانتخابية من دون إعطاء صوته لأحد المرشحين.

صحيح أن الورقة البيضاء أو ما يعرف بالتصويت الاحتجاجي وكذلك بالتصويت الفارغ، هو صوت في الممارسة الانتخابية يُظهر أن المُصوِّت غير راض عن الخيارات المطروحة أمامه، ولكن هل النواب الذين يلجأون إلى هذا التصويت في هذه الظروف المصيرية من تاريخ لبنان يعتبر موقفهم إعتراضياً تجاه المرشحين وبرامجهم، أم أن سلوكهم هذا هو موقف تعطيلي للمناورة والابتزاز السياسي، بعيد كل البعد عن الممارسة الديموقراطية، بهدف المساومة وتعزيز الشروط، للحصول على المزيد من المكاسب والحصص السلطوية في العهد القادم؟

وهل واقع لبنان الأسود يتحمل اللجوء إلى الورقة البيضاء الخبيثة؟

إن المراوغة والتسويف في إنتخاب الرئيس من الكتل النيابية، لن ينتجا رئيساً، ولن يشكّلا خلاصاً، في ظل المجلس النيابي الحالي، لا سيّما أنّ طبيعة المجلس وتركيبته تبدوان عصيّتين على جمع 65 صوتاً لأيّ مرشّح.

لذلك، فإن النواب ملزمون بالمشاركة في إنتخاب رئيس الجمهورية، ولا يجوز لهم الامتناع عن تلبية الدعوات المتتالية التي توجه إليهم لإنتخاب الرئيس، بحجة أن حضور الجلسات أو عدم حضورها يعود لخيارهم وإستنسابهم، كما ينبغي الاقلاع عن مكرهم في التصويت بالورقة البيضاء المعطلة، بذريعة التعبير عن موقف سياسي ديموقراطي.

فالنائب في الدستور اللبناني يمثل الأمة، ولديه تكلیف دستوري بالمشاركة في الانتخابات، وبقدر ما تشكل هذه المشاركة حقاً دستورياً له، فهي تشكل موجباً دستورياً ووطنياً للقيام به، وليس حقاً شخصياً، بل هو حق الشعب على النائب، وواجب لا خيار له فيه، وإلا اعتبر مخلاً بواجب دستوري ووطني.

شارك المقال