نصر الله يستدرج تسوية خارجية لتمرير “مشرشحه” للرئاسة

عبدالوهاب بدرخان

يعتقد “حزب إيران/ حزب الله” أنه، وقد بلغ الأربعين، أصبح جاهزاً لتسلّم الحكم في لبنان، ويرى الفرصة متاحة أمامه كي يدير الفراغ الرئاسي بحيث يكرر تجربة فرض ميشال عون رئيساً، متجاهلاً ما كان من أمر رعايته هذه التجربة وقيادتها البلد نحو الهاوية. من شأن “العونيين” أن يتشبثوا بالإنكار ليبقوا على قيد الوجود في المشهد، أما أن ينكر “الحزب” نتائج الرئاسة التي تبنّاها ورعاها وأدارها فهذا جزء من عقليته وسلوكه السياسيين، إذ ليس من عادة الاستبداديين أن يعترفوا بأخطائهم وإذا فعلوا فلتبريرها وتأكيد أنهم فوق المحاسبة. لكن “الحزب” ينكر في هذه الحال حجم الأضرار التي ألحقها وسيلحقها بالمسيحيين، سواء جهروا بذلك أو لزموا الصمت المريب، بعدما كان استند إليهم في ضرب السنّة ومواصلة الحملة عليهم.

تُسمَع حالياً أصواتٌ مسيحية، أبرزها البطريرك بشارة الراعي والمطران الياس عودة وعدد محدود من السياسيين، توصّف الوضع الذي أنشأه “حزب إيران” بواسطة المسيحيين وعلى حساب موقعهم في النظام وتجاوزاً لإنجازاتهم، من تثبيت “لبنان الكبير” الذي شعروا في مئويّته قبل عامين أنه دخل مرحلة عدم اليقين، الى “الاستقلال” الذي لمسوا في سنويّته الـ 79 أنه بات مجرّد ذكرى. لكنهم، أي المسيحيين، ليسوا قريبين من الاتفاق على تحديد العلّة التي فتكت بالكيان أو على خريطة طريق لمواجهتها. لقد اخترقهم النظام الإيراني عبر “حزبه” بأكثر مما فعل النظام السوري ووصايته الآفلة. واضطرّت قيادتهم الدينية المفترضة، أي بكركي، الى محاولة استنساخ ما جاء به السابقون من “ضمانات” دولية للكيان اللبناني، عبر “مؤتمر دولي” أو ما يشبه ذلك، إلا أن الواقع الدولي تغيّر، تحديداً بواسطة إيران ومحورها وحلفائها، وأصبح أكثر ميلاً الى عقد صفقات معها، فيبيعها تنازلات في لبنان وغيره لتحميها إيران بميليشياتها وصواريخها، وتبيعه بدورها أوهام “شراكة” غير متكافئة في نفوذ لا تستطيع فرنسا ممارسته ولا حمايته.

الاستقلال الذي انتزعه المسيحيون ما لبث أن تجسّد بميثاق العيش المشترك مع المسلمين، لا سيما السنّة، وأمكن الحفاظ عليه على الرغم من الحروب الأهلية، بل أعيد تثبيته بـ “وفاق الطائف” وفي “اتفاق الطائف”، لكن اغتيال “الرئيس الوفاقي” رينيه معوّض ثم اغتيال “عرّاب الطائف” رفيق الحريري فتحا الأبواب لاغتيال “اتفاق الطائف” والضمانات التي كرّسها للوفاق والعيش المشترك، وبالتالي… للاستقلال.

بعد اغتيال معوّض صارت رئاسة الجمهورية عليلة وفقدت الهيبة تدريجاً ولم تعد للموارنة زعامات قادرة على صون المنصب الأول في الدولة، الى أن رُفِّع ميشال عون زعيماً “قويّاً” ذا تمثيل مسيحي كبير وحاقداً تاريخياً على “اتفاق الطائف”، وبالأخصّ مخادعاً لـ”التسوية” مع “حليفَين” مسيحي وسنّي، ولم يتأخّر في إسقاط نفسه بنفسه وبمؤازرة صهره القميء، الى أن انتهت ولايته من دون أن يعي أو يعي صهره أنه أصيب بسرطان اسمه “حزب إيران”. ولأن عون استسلم لهذا “الحزب” وارتضى أن يكون دمية في يده فقد أراد أن يكون آخر الزعماء المسيحيين، أما “الحزب” فيتكفّل الآن بمنع ظهور أي زعيم جديد ما لم يسلّم مسبقاً بشروطه.

وبعد اغتيال رفيق الحريري، بدور تنفيذي مؤكّد لـ”حزب إيران/ حزب الله” وبإمرة مشتركة للنظامين السوري والإيراني، كان الاستهداف المزدوج واضحاً: زعامة السنّة وموقعهم/ دورهم في النظام. ثم تبلورت مرامي هذا الاستهداف في تحالف الفريقَين المعاديين لـ “اتفاق الطائف”، “التيار العوني” و”الحزب”. حاولت رئاسة الحكومة الحفاظ على هذا الموقع، وعلى الدولة، لكن موجات الاغتيال ورياح الانقسامات التي أثارها “تفاهم مار مخايل” ثم “حرب 2006” المفتعلة لم تسعفها، وبسبب التحقيق الدولي في الاغتيال والمحكمة الدوليين تحوّل مجلس الوزراء حلبةً وشاهداً لصراعاتٍ ترمي الى إفشال رئاسته وتهشيم الحدّ الأدنى من التزام الشراكة الوطنية، وهو ما تأكّد في غزوة بيروت ثم في “اتفاق الدوحة” الذي أعقبها وشكّل التفافاً على “الطائف”. ومع ذلك ظلّت للسنّة زعامة معترف بها في شخص سعد الحريري، ولم تزعزعها مؤامرة اسقاطه بالثلث المعطّل، الى أن كانت “التسوية” المشؤومة التي أقدم عليها الحريري الابن لـ “ضمان استمرار التزام اتفاق الطائف” فيما حوّلها “الحزب” مع عون وجبران باسيل الى خدعة لاستكمال تخريب النظام والدولة.

وهكذا يحلّ الاستحقاق الرئاسي ولا زعيم سياسياً سوى حسن نصر الله، فحصيلة العقدين السابقين أطاحت بأي زعامة أخرى وكانت كارثية بالنسبة الى الموارنة والسنّة، لكنها حققت لايران و”حزبها” زعامة شيعية لا ينازعها أحد. تفتتت “الصيغة اللبنانية” ولم يعد في إمكان الموارنة أن يختاروا رئيساً إلا من يصطفيه نصر الله، ولا في إمكان السنّة أن يختاروا رئيساً للوزراء إلا من يأذن نصر الله بمروره. وبناء على ذلك يحدّد “مواصفات” الرئيس المقبل، ويمنع المجلس النيابي من انتخاب رئيس ما لم يضمن مسبقاً الغالبيةً الكافية لمرشحه، بالأحرى لـ “مشرشحه”، على الرغم من أنه يلاقي “ممانعة” من حليفه “العوني”، بالأحرى “الباسيلي” الذي دعّم حججه أخيراً باحتضان قطري ملتبس أساسه الاستثمار في الغاز الذي لم يظهر بعد.

لكن نصر الله لا يهتمّ بأي تفاصيل، فاللعبة الداخلية تحت سيطرته، وهو يحاول جذب اللعبة الخارجية لترويضها في مربعه، فإذا وافقت فرنسا (بغضّ نظر أميركي أو بدونه) على تمرير مرشّحه، ومع أن هذا الاحتمال لا يزال ضعيفاً إلا أنه، في حال حصوله بصفقة ترعاها إيران خارجياً، يكرّس حاكمية نصر الله وحزبه، ويُفقد الجانب اللبناني (أياً يكن الرئيس والحكومة) امكان رفض “شرعنة السلاح غير الشرعي” أو الاعتقاد بأن أي “استراتيجية دفاعية” يُتّفق عليها يمكن أن تضبط هذا السلاح، ولا تكون ملزمة بـ “حماية المقاومة”، كما يريد محمد رعد على الرغم من أن زعيمه نصر الله أكّد أن “المقاومة” لا تحتاج “غطاءً” ولا “حمايةً”. وهي كذلك بالفعل، فـ”المقاومة” التي غدت حال احتلالٍ ايرانيٍ قائمٍ لم تعد في خطر ولا مهددة اسرائيلياً (أو أميركياً) بفضل المصالح التي أتاحها اتفاق الترسيم، بل تأكّد الآن أن “المقاومة”/ الاحتلال هي الخطر الحقيقي المحدق بلبنان.

يرى حزب نصر الله أن لديه سيطرة كاملة على مسألة الفراغ الرئاسي، وينتظر إيعاز القوى الخارجية الى ممثليها في البرلمان بأن يرضخوا لارادته وإلا فإن الفوضى الحالية ستتفاقم لتحتّم “تسوية” جديدة تذهب أبعد من “اتفاق الدوحة” في زعزعة “اتفاق الطائف”. والتجربة أثبتت خلال ثلاثة عقود أن لكل تسوية رئيسها وأن الرئيس غير متاح له استعادة الدولة بل أن يكون مرحلة انتقالية الى محطة تالية في المشروع الإيراني.

شارك المقال