فراغ بيروت لا يملأه الفارغون

زياد سامي عيتاني

لا يختلف اثنان على التراجع المتعمّد والممنهج والمنظّم للدور الريادي المتقدّم لبيروت (عاصمة قرار لبنان السياسي) منذ سنوات، مقروناً بإضعاف مؤسساتها التاريخية على الصعد كافة (دينية، إجتماعية، تربوية، صحية، تنموية، الخ…)، وبالتدمير المتعمّد لبنيتها التحتيّة والفوقيّة ومرافقها العامّة، التي باتت شبه مشلولة، فضلاً عن طمس كلّ معالمها الحضارية، وضرب حركتها الاقتصادية (المتوقّفة عجلتها) في الصميم، وصولاً إلى الحالة المعيشيّة المزرية المذلة التي يعيشها أبناؤها وأهلها والمقيمون فيها من مختلف فئات المجتمع البيروتي وشرائحه (!) في ظل غياب زعاماتها وأقطابها وقواها السياسية وتغيّبهم عن التأثير الفعلي والجِدّي في القرارات السياسية التي تتحكّم بمسار الأحداث والتطورات، بما في ذلك المواقف والخيارات الوطنية – السيادية، بصورة متدرّجة منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بفعل الهيمنة المُحكمة والمُطبقة على كلّ مقدرات الدولة، ومصادرة مؤسساتها الدستوريّة والأمنيّة والاداريّة والماليّة، وبالتالي الإمساك بقراراتها السياسيّة الاستراتيجيّة!.

ومما زاد الواقع البيروتي السياسي والمجتمعي ضبابية وإرباكاً وضياعاً، حالةُ التشتّت والتشرذم والتناحر على المستويات كافة، التي تتخبّط بها بيروت، في ظل غياب مرجعية و/أو مرجعيات موثوقة، قادرة على أن تشكّل إطاراً مرجعياً جامعاً لمختلف المؤسسات والهيئات الحيّة والحيويّة، التي تتمتّع بالمصداقية، والمشهود لها بالفاعلية والانتاجية ضمن إطار إختصاصها، وذلك من خلال مشروع رؤيوي عملي عام، يلامس المشكلات والمعضلات المزمنة والمتراكمة التي تعيشها العاصمة ويحاكيها ويعالجها، خصوصاً في ظل الأوضاع المعيشية والحياتية المستحيلة.

وعلى الرغم مما تعيشه بيروت من استهداف وتهميش وإضمحلال، فإنّها إضافة إلى ذلك باتت تعاني من حالة مرضية خطيرة، تنذر عوارضها بنتائج وتداعيات من شأنها مفاقمة الداء الحقيقي وجعله عصيّاً على الشفاء، وذلك بسبب تهافت الطامحين على البحث عن أدوار لهم، والساعين الى الشهرة والظهور والبروز، لإنشاء هيئات وتجمعات على طريقة فيلمون وهبي “قصقص ورق وساويهم ناس”، بمسميات بيروتيّة، خاليّة من أيّ مضمون رؤيوي، ومن أيّ برنامج أو مشروع متقدّم ذي محتوى جِدّي، ومن أي قدرات عملانية قابلة للتنفيذ بإستعادة دورها الوطني الجامع، وإسترجاع مكانتها التاريخية، كعاصمة مركزية للقرار السياسي اللبناني.

فالمعلومات المتداولة تشير إلى أن ثمة ثلاث شخصيات مفرطة في طموحاتها تجهد سعياً الى إنشاء أطر تجميعيّة لشخصيات بيروتية، تحت عنوان “ملء الفراغ السياسي” في ظل خلو الساحة البيروتية من أية مرجعيات وزعامات تمثلها، بعد تعليق الرئيس سعد الحريري العمل السياسي، خصوصاً وأن الانتخابات النيابية عجزت عن توفير البدائل التمثيلية ذات الثقل الشعبي، القادرة على خلق “ديناميّة” سياسيّة جديدة.

بالتأكيد من حقّ، لا بل من واجب كلّ شخصية بيروتيّة تجد أنّها تمتلك مقومات القيام بمبادرة استنهاضيّة تجاه مدينتها الجريحة، من خلال العمل على تأسيس إطار جامع لفعاليات ونخب ونشطاء، أن لا تتأخر أو تتقاعس عن إطلاقها، شرط أن تتسم بالجديّة، وأن تكون مبنيّة على أسس ومرتكزات متينة، وفقاً لخطة واضحة المعالم والأهداف، مقرونة بالقدرة على الخطوات العملانية لوضعها موضع التنفيذ على أرض الواقع، بعيداً عن “الكرنفالات” الاستعراضية.

لكن، المتابع بدقة وموضوعيّة، وبكلّ تجرد لهذا التحرك في إتجاه إنشاء تلك “التجمعات” الثلاثة، بصورة منفصلة ومتباعدة، (لا بل متناحرة!)، يستنتج من دون عناء، محدوديّة هذه الاندفاعة النابعة من الغيرة على بيروت والحرص عليها، لأن كلّ المداولات والطروحات والنقاشات لا تتعدّى إطار الندب والشكاوى و”البكائيات” (المحقة) على ما آلت إليه أوضاع العاصمة وأبنائها من جهة، ومن جهة أخرى تحميل فريق سياسي (على سبيل الشعبوية) مسؤولية ذلك، على الرغم من أنّ كثراً من المشاركين في هذه اللقاءات من الانتهازيين والوصوليين وراكبي “الموجات”، كانوا حتى الأمس القريب من يجاهرون بفخر وإعتزاز بإنتمائهم الى هذا الفريق، وباتوا اليوم يرشقونه بشتائمهم السياسية.

فكلّ ما يطرح هو ترداد للشعارات “الكليشيهات”، التي باتت فاقدة لصلاحياتها، وغير مستوفية لشروط المرحلة ومقتضياتها، والتي لم تعد قادرة على التسلّل إلى عقول الناس وقناعاتهم، ولا أن تشكّل قوة تأثير وإقناع، فضلاً عن أنها عاجزة وقاصرة عن الارتقاء بمسؤولية؛ إلى طرح برامج عملية غير تقليدية، كفيلة وقادرة على رفع الغبن والاهمال السياسي والإنمائي والإقتصادي عن بيروت، وبالتالي انتشال أهلها وأبنائها والمقيمين فيها من حالة البؤس الإجتماعي والإحباط والإنكسار المعنوي، وصولاً الى إسترجاع دورها المحوري في المعادلة السياسية المعبّر عن توجهات أبنائها وتطلعاتهم.

هذه الخفة والسطحية في التعاطي مع واقع بيروت المتردي، ومستقبلها المهدّد، ستزيدانها تخبّطاً وإرباكاً وضياعاً، وستعمّقان الاشكاليات والصراعات بين اللاهثين الفارغين، الزاعمين بملء فراغها (!).

بيروت اليوم تعيش واقعاً شبيهاً بما عانته من إستهداف وإستباحة خلال الحروب التي شُنّت عليها، أو التي كانت مسرحاً لها من الميليشيات الطائفية والمذهبية من قوى الأمر الواقع، التي تنازعت في ما بينها للهيمنة عليها وعلى قرارها السياسي… ولكن هذه المرة ليس بإستخدام السلاح الحربي، بل من خلال التهويل به، والهيمنة عليها بواسطته.

أمام هذا الخطر الكبير الذي يهدّد بيروت في هويّتها وتاريخها وموقعها، المطلوب صحوة بيروتيّة عارمة على الصعيدين النخبوي والشعبي، معطوفة على وعي شامل، والعمل سريعاً على إيجاد إطار مرجعي وازن وموثوق، يكون شاملاً وجامعاً لكلّ مكوناتها وشرائحها الإجتماعية والسياسية والمناطقية، يحدّد المرتكزات الأساسية المطلوب الالتزام بها والعمل بمقتضاها، بما ينسجم مع توجهاتها وقناعتها الوطنية والسياسية، لترشيد وضبط كلّ ما تشهده من حراك، ووقف حالة الفلتان، ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخيّة.

شارك المقال