أزمة النظام الايراني: من الجذر إلى الأغصان

لؤي توفيق حسن

لقد أثبت الحراك الشعبي في ايران أنه ليس كما توقع البعض ومضة كبريت وتنطفئ، بل هو يبرهن يوماً بعد يوم أنه شعلة لا يخمد وقودها غضب متجذر، ربما نتحسس عمقه من وقفة المنتخب الايراني في المونديال رافضاً ترديد نشيد بلاده، وهذا اذا ما أخذنا في الاعتبار مدى اعتداد الايرانيين بقوميتهم حتى ندرك حجم معاناتهم التي غلبت على نزعتهم القومية المعتدة. وعليه، فان ما تشهده ايران بات أعمق من أن تقوى عليه أدوات القمع بيد نظام الملالي، إنه بعمق أزمة نظام قادم من متحف التاريخ ليدير دولة وفق قوالب حديدية صارمة عفا عليها الزمن. ومن هنا، فان مقتل مهسا أميني جاء يومها بمثابة الشرارة التي “أشعلت السهل” على قول ماو تسي تونغ، آخذين في الاعتبار أن ما تشهده ايران جاء بعد تراكمات من حراكات سابقة.

الجذر

يبدأ الخلل أو اشكالية النظام من عقلية الطبقة المتحكمة بايران، وكان أحد تجلياتها دستورها الموغل في مذهبيته؛ بل المغلق على أية امكانية للتعديل، من اللافت منه مثلاً المادة 12 – التي تحصر اسلامية الدولة بهوية طائفية بعينها – وهي على الشكل التالي كما وردت في النص: “المذهب الشيعي الأثني عشري، ويبقى هذا المبدأ قائماً وغير قابل للتغيير إلى الأبد”؛ العبارة الأخيرة – “إلى الأبد” – تعكس العقل المغلق لأصحاب الدستور وتقطع الطريق على أي تعديل، كما وأن هذه القطعية المذهبية سجنت شعار “تصدير الثورة الاسلامية” في قفص مذهبي ضيق، والذي من البديهي أن لا يلقى القبول في عالم اسلامي معظمه من “أهل السنة”!، فكيف الحال وايديولوجية الثورة -الأثني عشرية – غير متصالحة مع العالم المذكور؟ رب قائل بأن التنصيص على الدين أمر مألوف في الدول الاسلامية وأحياناً المذهب بل ويمتد الى بعض دول أوروبا وأميركا. وهذا صحيح، ولكن هناك فارق كبير جداً في المضمون، اذ بصرف النظر عن تفاوت الخلفيات التاريخية أو الثقافية لهذا التنصيص فان القاسم المشترك بين من يتبنونه أنه مبني على الفصل التام بين المؤسسة الدينية من جهة والمؤسسة السياسية الحاكمة من جهة أخرى، فأين ايران من هذا؟ وحيث السلطة الدينية فيها جزء من مؤسسات النظام وآلياته، فعلى سبيل المثال ورد في مقدمة الدستور في بند “ولاية الفقيه العادل”، أن من مهماته “صيانة الأجهزة المختلفة من الانحراف عن وظائفها الاسلامية الأصيلة”، وعلى هذه الخلفية جاءت المادة 110 من الدستور لتجعل “الولي الفقيه” أقرب إلى أباطرة القرون الوسطى يأمر وينهي ويرسم السياسات، يعزل ويعيّن، ويقفز فوق البرلمان المنتخب لدرجة حله، وهذا وفقاً لحصانة قدسية واردة صراحة في الفقرة (5) من المادة الثانية في الدستور والتي تتضمن الأركان الايمانية للدولة ومنها “الايمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس في استمرار ثورة الإسلام”. مذهلة عبارة “القيادة المستمرة”!، لكن المذهل أكثر أن هذا الدستور بصبغته التي تجمع بين المذهبية والهوية الفارسية في الآن عينه يأتي في بلد يضم 30 قومية مما استثار غير الفرس منهم وهم يشكلون نصف عدد السكان. وعلى الرغم من محاولات السلطة العزف على الوتر القومي الفارسي بغية تفكيك الانتفاضة واحتوائها، فان الأزمات المعيشية وغياب الحريات جمعت هذه المكونات؛ أو بمعنى آخر فان العصبوية الإثنية تلاشت أمام حقيقتين: أولاً الاقتصاد المتهاوي، وثانياً غياب الحريات، وتكريس أفكار صُفر، فيما يبدو معاندة لحركة التطور، بل وللمفارقة لفلسفة الامام علي في التطور وتختصرها مقولته الشهيرة “كل وعاء يضيق بما جُعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسـع”، وحيث وعاء العلم هو العقل.

الأغصان

بدأ الفساد يزحف الى الحرس الثوري مع مجيء الخامنئي وتعاظم دوره في الحياة السياسية ثم الاقتصادية كما سنرى، خلافاً للحال أيام الخميني الذي حرص عند تأسيسه الحرس على أن يكون قوة عسكرية وحسب في موازاة الجيش النظامي لكونه لم يكن واثقاً من ولائه، ومن هنا أضفى على الحرس اهتماماً خاصاً من حيث التسليح والتعبئة العقائدية. ويرى خبراء في الشأن الايراني أن باع الحرس الثوري بلغت طولاً حتى صارت في الوقت الراهن أهم ناخب لـ “المرشد الأعلى”، وهو الأمر الذي يتضح في الصراع المحتدم داخل أجنحة السلطة في ايران مع اعتلال صحة الخامنئي، وبروز اسم ابنه مجتبى كمرشح يحظى بدعم الحرس الثوري لتبوؤ الموقع.

لقد توسع الحرس الثوري في وضع يده على مقدرات ايران خلال عهد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد وبدعم منه، فأصبحت له شركات طالت معظم فروع الاقتصاد، وأنشئت شركات في الداخل وخارج الحدود وصلت إلى بعض دول أميركا اللاتينية منها فنزويلا، وقيل عن شركات في أوروبا تحت ستار أسماء للتمويه!، ولا يخلو بعضها من شركات وهمية لنشاطات غير قانونية، كتبييض الأموال أو التهريب، وهذه تحظى بغطاء رسمي، حتى لم يجد نجاد حرجاً في ممازحتهم احدى المرات بـ “الأخوة المهربين”!. ولقد أدى ما سبق إلى “تعاظم اقتصاد الحرس بنسبة 210%”، ما حدا بالرئيس هاشمي رفسنجاني الى القول: “يبدو أن الحرس الثوري لن يكون سعيداً حتى تصبح الدولة تحت سيطرته”، وهو في هذا يعبّر عن سخطه، الموقف الذي قاده فيما بعد الى الصدام مع الحرس الثوري والخامنئي بالذات حداً وصفوه بـ”العدو”. استطراداً، فان هذه العبارة لمستهجنة بحق رجل مثل رفسنجاني بالذات وقد كان من أركان “الثورة الخمينية” حتى لقبوه يوماً بـ “شاه الثورة” فضلاً عن أنه من مؤسسي الحرس الثوري بالذات، وتدلنا على العقلية الدوغمائية التي نرى نسختها اللبنانية – (الممانعة)!- التي تصف المعترضين عليهم بـ “عملاء السفارات”.

لقد بات الحرس الثوري يستحوذ بأقل التقديرات على قوة اقتصادية قدرت بحوالي 200 مليار دولار، وهذه لا تدخل في ميزانية الدولة وغير خاضعة لرقابة أحد سوى المرشد الأعلى!. ولعل هذا الجنوح نحو المال أدى إلى تشكل طبقة من رجال “البزنس” من العسكريين. وهذا ما خلق تململاً بين صفوف الجيش الايراني وكذلك بين المستويات الدنيا داخل الحرس؛ ولقد شكلت الصناعات العسكرية مزراباً جنى منه الكثير من قادة الحرس مئات الملايين من الدولارات؛ وذلك من خلال أعمال الوساطة في استيراد قطع وتجهيزات من دول غربية؛ استطراداً وعلى سبيل المثال تبيّن من تفحص المسيرات الايرانية التي أُسقطت في أوكرانيا أن بعض القطع المستعملة فيها جاءت من دول أوربية غربية، الأمر الذي يخضع لتحقيقاتها للبحث عن كيفية وصولها إلى ايران. ومن جهة أخرى، فان محاولات ايران تطوير آلتها العسكرية إلى مستوى من مستويات “الردع” في وجه الولايات المتحدة الأميركية، أدخلها في اللعبة نفسها التي استنزفت الاتحاد السوفياتي وانتهت به إلى الافلاس، فكيف بالأحرى ايران الأقل شأناً بعشرات المرات؟، ناهيك عن مليارات الدولارات التي تصرفها على أذرعها العسكرية من فنزويلا حتى اليمن، ومن لبنان وسوريا حتى البحرين والعراق ووسط آسيا، وكل ذلك على حساب التنمية بل وحياة الايرانيين في أبسط حاجاتهم، حتى بات 40% منهم تحت خط الفقر في تقديرات المختصين في الشؤون الايرانية، وهي كذلك تشير إلى أن أربعة من أصل خمسة جامعيين أصبحوا بلا عمل. وبين ثنايا هذه المعاناة يستشري الفساد في الدولة الذي وصل إلى صفوف القادة من الحرس الذين باتوا من أصحاب الأعمال التجارية أو يشاركون فيها.

لقد “وصل السكين إلى العظم” كما يقول المثل ولأول مرة، كاسراً كل الاعتبارات و”الأسرار القدسية” للملالي، وهذه بعض الأمثلة: تقول بدري حسيني خامنئي شقيقة المرشد “أنا أعارض أفعال أخي… أعبّر عن تعاطفي مع جميع الأمهات اللائي صرن ثكالى على إثر جرائم نظام الجمهورية الاسلامية”. أما ابنتها المهندسة فريدة فهي محكومة بالسجن 15 سنة بسبب معارضتها، وقد وجهت نداء عبر الفيديو ومما جاء فيه: “أيتها الشعوب الحرة، ساندونا وأبلغوا حكوماتكم بأن تتوقف عن دعم هذا النظام الدموي قاتل الأطفال… هذا النظام ليس وفياً لأي من مبادئه الدينية ولا يعرف أي قواعد سوى القوة والتشبث بالسلطة”. ولعل عمق الخيبة عبّرت عنه فائزة ابنة الرئيس الراحل رفسنجاني حين قالت ان الايرانيين “لا يعتبرون أميركا عدوة، بل يعتبرون السياسات الايرانية هي العدوة”!… شهود من بين ثناياهم.

شارك المقال