ماكرون وقبول السيّء الايراني لتجنّب الأسوأ الايراني

عبدالوهاب بدرخان

خلال جلسات “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة”، الذي استضافه الأردن في السويمة على البحر الميت، كانت العبارة التي اجتهد جميع الرؤساء المشاركون في توصيفهم للوضع العراقي هي أن مشكلته تكمن في النفوذ الإيراني. هذا المؤتمر انبثقت فكرته من القمم الثلاثية، المصرية – الأردنية – العراقية، التي بدأت في 2019 حين كان عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء في العراق، لكنها اتخذت بعداً أكثر جدية مع خلفه مصطفى الكاظمي الذي أعطى إشارات واضحة الى أنه يريد إخراج العراق قدر الإمكان من القوقعة الإيرانية. والتقط الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تلك الفكرة بغية توسيعها بدعوة دول الخليج ولا سيما السعودية، وكذلك إيران وتركيا، لكن مع استثناء سوريا، وبالتالي لبنان، على الرغم من أن طهران أرادت استغلال المناسبة وحسن علاقتها مع باريس آنذاك لتأمين حضور رئيس النظام السوري النسخة الأولى من هذا المؤتمر في بغداد (آب/ أغسطس 2021)، إلا أن فرنسا ودولاً أخرى عارضت وجود بشار الأسد لأن من شأنه نسف الهدف المتوخّى من المؤتمر. وللأسباب نفسها لم يُطرح إمكان دعوة الأسد الى النسخة الثانية في الأردن.

خلافاً لعبد المهدي كان يمكن الرهان على الكاظمي لأنه ليس صنيعة إيرانية ولا ينتمي الى أي جهة موالية لإيران، ثم ان مؤشّرات كثيرة كانت تدلّ على أن حظوظه جيدة للبقاء في منصبه لسنوات تالية بسبب الخلافات الناشبة بين أطراف “البيت الشيعي”. لذلك عَقدت القاهرة وعمّان آمالاً على مشاريع تعاونية مع بغداد في مجالات عدة خصوصاً الطاقة، وكانت القمم الثلاثية تتطرق الى الملفات السياسية بالصيغة التي تلائم بغداد، وبعد ذلك أدّت الثقة بالكاظمي الى حضوره لقاءات عربية وإقليمية لم يكن متوقّعاً أن يُدعى العراق إليها، ومنها مثلا قمة جدّة بين الرئيس الأميركي وتسعة من القادة العرب (منتصف تموز/ يوليو الماضي). غير أن طهران تمكّنت من كسر حراك “التيار الصدري” وزعيمه، وما لبثت أن فرضت على مقتدى الصدر الانكفاء، ما أدّى أيضاً الى غياب كامل للكاظمي، فولدت حكومة محمد شياع السوداني الذي وزّع وزاراته على مكوّنات ائتلاف الميليشيات الموالية لايران والمعروفة بـ “الإطار التنسيقي”. ولأن السوداني لا يعرف الخارج ولا يعرفه، وترعرع سياسياً في “البيئة” الحاضنة للنفوذ الإيراني، فإنه يحتاج الى وقت كي يبني “شيئاً من الثقة” مع الجوار العربي والمجتمع الدولي، مقدار ما يحتاج الى هامش إيراني يمكّنه من تفعيل الاتفاقات المبرمة مع مصر والأردن فضلاً عن السعودية.

كل ما استطاعه ماكرون، تلميحاً، أن يدعو العراق الى “اتّباع مسار بعيد عن الهيمنة وعن أي نموذج يُملى من الخارج”. وإذ أشار الى الانتهاكات والتوغّلات والتدخّلات، تلميحاً أيضاً، فقد فُهم أنه يعني إيران وتركيا باعتبار أن تحرّكاتهما تكثّفت أخيراً داخل الأراضي العراقية. وقد نسجت كلمات القادة الآخرين على هذا المنوال، ومن ذلك قول الرئيس عبد الفتاح السيسي إن “مصر ترفض أي تدخّلات خارجية في شؤون العراق”، وقول مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن الاتحاد “يسعى الى عراق مستقرّ وأكثر قوّة”. لكن بماذا يفيد التلميح مع إيران وكأنها دولة طبيعية، أو مع نظام الملالي الذي صمّ آذانه حتى عن صرخات المحتجّين داخل إيران؟ الأرجح أن التلميح يؤكّد له أنه بلغ درجةً من الارهاب والوحشية تمنع أي طرف من مساءلته ناهيك عن ردعه ومحاسبته.

وما لم يقله ماكرون أفصح عنه غداة المؤتمر. فالهدف بالنسبة إليه “إبقاء العراق في الأجندة الإقليمية” وزيادة انخراطه فيها، و”إيجاد توازن مضاد لتأثير إيران”. والخلاصة أنه “لا يمكننا إيجاد أي حل لمشكلات لبنان والعراق وسوريا إلا في إطار حوار لتقليص التأثير الإقليمي الإيراني”. الحوار؟ هو ما دعا إليه الوزير حسين أمير عبد اللهيان في المؤتمر نفسه، وما تتمنّاه طهران وتدأب على الدعوة إليه، لكن على أساس الحفاظ على المكاسب التي حققتها وبقاء نفوذها وترسيخه وليس “تقليصه”، والأهم أن تحظى ميليشياتها وترساناتها بالشرعية في الدول التي غزتها من الداخل وباعتراف دولي إذا تعذّر الاعتراف العربي. هذه ليست شروطاً مسبقة وحسب، بل أمر واقع ترفض طهران تغييره، وبالتالي فإن مجرد الحوار معها يحقّق لها أكثر من نصف أهدافها، وما يتبقّى تتحصّل عليه بالتنازلات عبر التفاوض.

هنا أيضاً، بحديثه عن “الحوار”، وعن “تقليص النفوذ”، يجدّد ماكرون تأكيد اقتناعه بنهج “واقعي” يُفترض أن يعرف مسبقاً عدم جدواه مع إيران التي لا تطلب سوى أن يكون الآخرون “واقعيين” ليعترفوا بكل أمر واقع أقامته من فلسطين الى اليمن مروراً بالعراق وسوريا ولبنان. فما لا يُدرك مع طهران بالتفاوض النووي لا يمكن أن يُدرك في أي “حوار” أو تفاوض في شأن السياسات الإقليمية. ربما يكون التبشير بفضيلة “الحوار” دليل حسن نية أو سذاجة، لكن تحليل هذه الذهنية الماكرونية وفاعليتها على سائر الملفات، من أوكرانيا الى لبنان، من شأنها أن تكشف لصاحبها أولاً أن رهانه على علي خامنئي لن يكون أفضل من رهانه على فلاديمير بوتين، وثانياً والأهم أن “القيصر” الروسي والمرشد الإيراني ربما ينفتحان على كل مَن يرغب في محاورتهما، لكن “الحوار” الذي يتطلّعان إليه لضمان مصالحهما لا بدّ أن يكون مع الولايات المتحدة.

ماذا عن اسقاط النهج الماكروني على لبنان، خصوصاً أن الرئيس الفرنسي يريد أن يتحرّك قريباً لتحقيق تقدّم في إنهاء “الشغور الرئاسي”؟ الأرجح أن الممكن لا يزال في اطار “المساعدات الإنسانية”، وكل ما عدا ذلك يصبّ في مصلحة إيران و”حزبها” اللذين يصوّران للخارج أنهما الممر الالزامي لأي رئيس. وإذ يحدّد الخارج أولويته بـ “منع انهيار الدولة” وتفكّكها مع عجزه الكامل عن تدخّل حقيقي لإنهاضها فإن هذا المنطق يدفع باتجاه تسوية مع “حزب إيران/ حزب الله”، علماً بأنه اختُبر باختياره رئيساً دعمه وعطّل المؤسسات لفرض تعيينه/ انتخابه، وهو يكرّر الآن السيناريو نفسه بمرشّح آخر، ولا شك أن الرضوخ لابتزازه سيؤكّد أن الأطراف الدولية “الحريصة” تكرّس لبنان في وضعية “الرهينة” في أيدي هذا “الحزب”. والقاعدة عند ماكرون هي “القبول بالسيّء لتجنّب الأسوأ” حتى لو عنى ذلك استدامة الأزمة.

شارك المقال