حادثة العاقبية: “حزب الله” في “بيت اليك”

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

أشارت معلومات صحافية إلى أن “حزب الله” سلم الجيش 3 أشخاص بينهم مطلق النار الرئيس على القوة الدولية في العاقبية والتي أدت على الفور الى مقتل جندي إيرلندي واصابة 3 آخرين، وأن التحقيقات توصلت الى رسم صورة لما حصل، وهذا ما سيؤدي إلى نيل رضى “اليونيفيل” وكسب ود الأمم المتحدة من جديد والثقة بالجيش اللبناني، في ظل إصرار ايرلندا على محاسبة الفاعلين، وهو أمر لا يمكن أن يترك في عهدة “حزب الله” الذي فعل فعلته ولم يكن يتوقع أن يكون رد الفعل كما جاء، لا سيما من الدول المشاركة في قوة حفظ السلام في لبنان المنتشرة في الجنوب، ومن الأمم المتحدة التي باتت أمام اتخاذ إجراءات أمنية يمكن أن تحدث تحولاً لا يصب في مصلحة “حزب الله” ويضع الدولة اللبنانية في مأزق كبير وقد يصيب هيبة الجيش.

ولم تنجح محاولات “حزب الله” في التنصل مما جرى والترويج لكونه حادثاً غير مقصود من صنع “الأهالي”، فالمؤشرات كلها تدل على أنه أمر مخطط له، وهو رسالة ايرانية واضحة للغرب بأننا قادرون على النيل منكم وأن عليكم الكف عن التدخل في الداخل الايراني وادانة ما يحصل من النظام الذي يقتل ويعدم ويسجن غير آبه بحق الشعب في المطالبة بالتغيير وإسقاط نظام السلطة الدينية.

كان واضحاً أن إطلاق النار في العاقبية على القوة الايرلندية من مسلحين في المنطقة، تحت حجة سلوك طريق ممنوع، في وقت كان يجري تعقب الدورية من عدلون حتى العاقبية واضطرراها الى دخول شوارع ضيقة لمنع مرورها في الطريق السليم، لتكون حجة لاطلاق النار عليها على الخط الساحلي القديم وافتعال اشكال معها، هو أسلوب في المضايقة اتبعه “حزب الله” مرات عدة، ولديه أصلاً “وحدة الأهالي” المكلفة القيام بمهمات اعتراض القوات الدولية ومنعها من الدخول والخروج من القرى، وكان يتم التعرض للدوريات بحجة التصوير والقيام بأعمال غير مطلوبة منها.

حالات التحريض من “حزب الله” ضد هذه القوات التي تنتشر في الجنوب ومهمتها تأمين حماية الجنوبيين وسلامة أمنهم وتنفيذ القرار 1701، ومنع العمل المسلح للحزب في المنطقة الحدودية، كان الهدف منها تحسين قواعد الاشتباك، وارسال رسائل لتعزيز موقعه عبر الاعتراض على وجود قوات حفظ السلام لتثبيت وجوده في المنطقة عن طريق إيجاد قاعدة شعبية حاضنة له للقول إنه لا يمكن إخراجه من هذه المنطقة وبالتالي لا تزال لديه القدرة على تهديد اسرائيل.

أعادت حادثة العاقبية الى الأذهان حوادث الاعتداء على القوات الدولية التي كانت تجري ما قبل العام 2005 وما بعدها من مجموعات مسلحة متهمة بالارهاب وهي فصيل فلسطيني مرتبط بـ “حزب الله” والمخابرات السورية ويقوده جمال سليمان، وكان مسؤولاً عن تفجير عبوات في الرميلة وابل السقي والعرقوب والقليلة والبرغلية، وكلها كانت رسائل دموية الى القوات الدولية، كثرت تحديداً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لمنع قيام المحكمة الدولية، وظلت هذه الأمور سائدة حتى العام 2009 وخصوصاً بعد نشر هذه القوات في العام 2006 وفقاً للقرار 1701، وهذا المسار الدموي كان “حزب الله” يهدف من ورائه الى القول انه لا يزال موجوداً في المنطقة وسلاحه موجود ولتقويض سلطة القوة الدولية واعاقة عملها.

على المستوى الشعبي، كانت علاقة أهل الجنوب بالقوات الدولية بعيداً عما يسمى “بيئة حاضنة”، علاقة تعايش، فهذه القوات كانت تقدم الخدمات المختلفة اليهم سواء على المستوى الصحي أو الزراعي أو الوظيفي أو التعليمي والتجاري أو الحرفي، والكل كان يستفيد بطرق مباشرة أم غير مباشرة. والجنوب عاش بأمان وطمأنينة نتيجة سيطرة القوة الدولية منذ العام 2006 بالاتفاق مع الجيش اللبناني والسهر على أمنه.

في آب من هذا العام، جرى التجديد الأخير للقوة الدولية واتخذ قرار دولي أممي بتوسيع مهام عملها واعطائها حق اطلاق النار دفاعاً عن النفس في حال تعرضت للهجوم، وحقها في أن تتحرك من دون مرافقة الجيش اللبناني وكان ذلك مؤشراً جيداً، لكن ما حدث في العاقبية أعادنا الى المربع الأول وهو أمر خطير للغاية وتبعاته مؤلمة إن لم تحصل عملية المحاسبة، وهذا يتطلب قضاء نزيهاً وقادراً ومستقلاً حتى لا يتكرر ما جرى في حادثة استشهاد النقيب الطيار سامر حنا في تلة رسلان في سجد عام 2008 عندما أطلقت باتجاهه نيران “مجهولة معلومة” في منطقة سيطرة “حزب الله” أسقطت مروحيته على يد مصطفى المقدم الذي قتل لاحقاً في سوريا في العام 2014 بعد اطلاق سراحه في العام 2009 بكفالة مالية.

لكن الفريق الدولي جاء للتحقيق، إثر الاتهامات والصرخات العالية من الاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة بأن حادثة العاقبية ليست حادثة فردية، وتبين أن محاولات “حزب الله” للصقها بالفلسطينيين أو السوريين للتهرب والقول بأن لا علاقة له بها لم تجدِ نفعاً، وكان الرد حاسما بأنه المسؤول، وبالتالي لم يعد من الممكن الالتفاف عليها. وتبين من خلال تحقيقات شعبة المخابرات في الجيش اللبناني والفريق الدولي الذي استمع الى الجرحى والمشاركين والعديد من الأهالي وتفقد كاميرات المراقبة وأثبت نقاطاً كثيرة وضعت “حزب الله” في الزاوية، أن هذه العملية لم تحصل بالصدفة وانما كانت عملية مدبرة ورسالة دموية أرادت ايران ايصالها مباشرة من خلال المسيرات في أوكرانيا والاعدامات في طهران والمواجهة مع القوات الدولية في لبنان، وهي رسائل واضحة تؤشر الى أنها تريد فتح باب التحاور مع الغرب من دون النقاش في ما يجري في الداخل.

فشل “حزب الله” في الالتفاف على عملية العاقبية وفي اتهام طرف ثالث مجهول والتحفظ عنها بفعل إصرار القوة الدولية على وضعه في “بيت اليك” وحشره في زاوية لم يستطع الخروج منها، الى أن فاجأ الجميع بتسليم أحد المتهمين من بلدة عدلون، مشيراً الى أن هذا الشخص مسؤول أمني في الحزب ويعمل حداداً وقد أظهرته الكاميرات وهو يطلق النار ويحاول مواكبة الدورية والتضييق عليها. وبالطبع تسلم هذا الشخص الجيش اللبناني ونقله الى مركز مخابرات بيروت والتحقيق جار، وكان ذلك بداية لأن هناك أكثر من متهم.

الضربة التي تلقاها “حزب الله” كبيرة فهو لم يكن ينتظر أن تسير الأمور على هذا النحو، اذ أن مشكلته ليست مع سفارة أو معترضين أو منتفضين لبنانيين ولا مع شخصيات يعتدى عليها بالطريقة العادية، وليست مع دولة، لا مع فرنسا ولا مع الولايات المتحدة ولا مع ايرلندا، المشكلة مع الأمم المتحدة الموجودة في لبنان وفق القرار 1701 والبند السادس المشرّع بالبند السابع الذي لا يحتاج الى أي قرار عسكري قد تنفذه هذه القوات بمراجعة الأمم المتحدة، وهنا لا داعي لاعتراض الصين ولا لاعتراض روسيا ولا ينفع الفيتو في إنقاذه، القضية محكمة وكبيرة والقوة الدولية لا تريد التراجع بل أخذ التحقيق في الملف نحو النهاية.

صحيح أن الحزب بدأ بالتنازل، وقد يسلم شخصاً أو أشخاصاً آخرين ولكن لم تنتهِ العملية هنا، بالاكتفاء بمن أطلق النار وبمن كان يلاحق هذه الدورية بل سيصل الى من أعطى الأوامر ومن هي المجموعة الأخرى التي شاركت وغطت. والسؤال هل الحزب سلم هذا الشخص لإيهام المخابرات والتحقيق بأنه شخص عادي ويتم تقديمه كبش محرقة يعمل الحزب والقضاء المرتبط به على إخراجه بعد فترة؟ الجواب سيأتي لاحقاً. وكيف ستنهي الدولة ملف العاقبية، هل ستقوم باعتقال آخرين أم تكتفي بمن تم تسليمهم؟ وهل ستكون القوات الدولية عرضة لرصاص “حزب الله” وتبقى مهددة ساعة يشاء؟ وهل ستجمد القوة الدولية وتقلص مهامها أم ستلجأ الى تدابير لحماية تنقلاتها؟

لا شك في أن حادثة العاقبية نقطة تحول في التعاطي مع الفلتان الذي يمارسه “حزب الله” ومن خلال الدعاية والتهويل في دفع الأهالي الى مثل هذه الممارسات. ولا بد من التنبه الى أن مواجهة القوات الدولية لا يمكن أن تمر مرور الكرام، فعلى الاتحاد الاوروبي اتخاذ موقف واضح من الحزب والتعامل معه ليس وفقاً للطريقة الماكرونية بالتمييز بين جناحيه العسكري والسياسي، والقول بالمكون اللبناني لأنه بات واضحاً أن الحزب مكون ايراني ولا يمكن السكوت عن ألاعيبه وإبقاء أعماله وجرائمه من دون عقاب.

شارك المقال