السعودية الأم الحنون للمسيحيين في لبنان أيضاً!

جورج حايك
جورج حايك

تشكّل العلاقة بين السعودية ومسيحيي لبنان علامة فارقة، حتى تبدو المفاهيم السياسية حول “أي لبنان نريد” مشتركة بين الطرفين وصولاً إلى أدنى التفاصيل المتعلقة بانتخاب رئيس للجمهورية، وارتياح البطريركية المارونية و”القوات اللبنانية” وكثير من المرجعيات المسيحية السيادية الى ثوابت السعودية وأدائها لحل الأزمة اللبنانية.

وقد يستغرب البعض أن السعودية التي تعتبر مرجعية اسلامية سنيّة عادة لمعظم الدول العربية الاسلامية وخصوصاً للطائفة السنيّة في لبنان، أصبحت المدافعة الأساسية عن ثوابت المسيحيين ورؤيتهم للبنان الخالي من الميليشيات المسلّحة والملتزم بدستور الطائف والحياد وما إلى ذلك.

ولا بد من الاعتراف بأن المسيحيين أيضاً في لبنان أصبحوا أكثر انتماء إلى العالم العربي، بل يعتبرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من المحيط العربي، ونفضوا عنهم صفة الالتحاق بالغرب، إلى درجة أن السياسة الفرنسية أحياناً، وبإدارة ايمانويل ماكرون، تراعي مصالحها في ما يخص لبنان أكثر من مصالح المسيحيين فيه، فيما السعودية تبدو أكثر حرصاً على الدور المسيحي وأكثر حزماً وصرامة في ما يخص السيادة واستعادة الدولة لقرارها الحر من دون صفقات!.

ولا شك في أن الدور السعودي لم يشكل يوماً هاجساً سيادياً وخطراً على الاستقلال اللبناني على غرار مصر عبد الناصر وفلسطين عرفات وسوريا الأسد وأخيراً إيران ولاية الفقيه، بل بقيت المملكة دولة صديقة للبنان داعمة لسيادته واستقلاله وعيشه المشترك.

ويبدو الدور السعودي أساسياً اليوم في صنع تسوية تأتي برئيس جمهورية ماروني رهانه الوحيد هو قيام الدولة اللبنانية وتحقيق السيادة وإنجاز الاستقلال، لذلك يتحلّى الموقف السعودي بالتشدد في مفاوضاته مع الدول الصديقة مثل فرنسا والولايات المتحدة في كل ما يتعلق بسيادة لبنان، وخارج هذا السياق لا أمل في انتخاب رئيس “ملوّن” يكون ظاهره توافقياً وهو ينفّذ مشيئة ايران و”حزب الله”.

على المستوى العملي، تعرف السعودية أنه لا يمكن للبنان أن يستعيد سيادته في ظل تمسك “حزب الله” بسلاحه ودوره الإقليمي، وهذا مطلب مسيحي يرى في السعودية الضمانة لاستعادة السيادة اللبنانية من المشروع الإيراني، وهي مطالبة أيضاً بأن تكون الضمانة لتحقيق الميثاق الوطني المتمثل في الشراكة المسيحية – الاسلامية عبر اتفاق الطائف، خصوصاً أن لبنان يرتكز على ركيزتين أساسيتين: السيادة والميثاق. وعلينا الاعتراف بأنه من دون الرعاية السعودية، ستبقى الدولة اللبنانية ضعيفة وعرضة للقضم من “حزب الله”، مما يُفقد لبنان مع مرور الوقت، قيمته المضافة كبلد نموذج ورسالة.

يرتاح المسيحيون الى الدور السعودي، ويطمئنون عندما يرون أن واشنطن وباريس لا تتخطيان الرياض التي باتت محطة مهمة لاجراء عملية تغيير في لبنان لانتشاله من الأزمات، وهو ما يتضح من خلال البيانات المشتركة حيال الأزمة اللبنانية.

إلا أن العلاقات الوثيقة بين المسيحيين اللبنانيين والسعودية كان لها استثناء وحيد، هو ميشال عون وحزبه “التيار الوطني الحر” مع صهره جبران باسيل؛ إذ ارتأوا أن تكون مصلحتهم بالتحالف مع “حزب الله”، ومن ثم مع إيران، وهو المحور الذي بطبيعة الحال يواجه دول الخليج أو السعودية تحديداً.

تأزم العلاقة بين السعودية وقسم من المسيحيين سببه الخطاب الذي تبناه “التيار” في أكثر من مناسبة، خصوصاً في ما يتعلق بحرب اليمن والصراع بين السعودية وإيران، بحيث لم يتخذ “التيار” ولا رئاسة الجمهورية ولا وزارة الخارجية في حينها الموقف الذي كان يناسب السعودية ومصالحها، وهذا ما سبّب النقمة.

لكن تموضع الكنيسة المارونية و”القوات اللبنانية” إلى جانب السعودية، أرسى توازناً بين القوى المسيحية المعادية للسعودية من جهة والقوى الحليفة لها من جهة أخرى.

يعود تاريخ العلاقات السعودية – المارونية إلى العام 1932، ولعل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي كان الأدق في وصف هذه العلاقة قائلاً: “في الواقع لم تعتدِ السعودية على سيادة لبنان، ولم تنتهك استقلاله، ولم تستبح حدوده، ولم تورّطه في حروب، ولم تعطّل ديموقراطيته، ولم تتجاهل دولته. كانت تؤيد لبنان في المحافل العربية والدولية، وتقدم له المساعدات المالية، وتستثمر في مشاريع نهضته الاقتصادية والعمرانية، وترعى المصالحات والحلول، وتستقبل اللبنانيين وتوفر لهم الاقامة وفرص العمل. لقد أثبتت العقود أن المملكة فهمت معنى وجود لبنان وقيمته في قلب العالم العربي، ولم تسعَ يوماً إلى تحميله وزراً أو صراعاً أو نزاعاً، لا بل كانت تهبُّ لتحييده، وضمان سيادته واستقلاله”.

قد لا تحبّذ القيادة السعودية علاقات خاصة مع الطوائف اللبنانية، إلا أنها تعترف بالعلاقات المميزة مع الموارنة، وهي تفضّل العلاقة مع جميع المكوّنات اللبنانية، من ضمنها الطائفة الشيعية، بل تحرص على أن تكون للبنان دولة قوية تنأى بنفسها عن أزمات المنطقة، وهذا ما يريده الموارنة أصلاً.

أهمية السعودية اليوم أنها لا تبني علاقاتها مع الدول وفق مفهوم عقائدي ديني اسلامي، إنما انطلاقاً من مبدأ قومي وطني عروبي، لذلك تبدو منفتحة ومعتدلة وتحترم خصوصيات كل دولة وشعب وجماعة، وتلتزم مفهوم السيادة والاستقلال.

من هنا تأتي مقاربة السعودية لكل الملفات السياسية اللبنانية ولا سيما ملف انتخاب رئيس الجمهورية الذي لن يكون امتداداً لعهد الرئيس السابق ميشال عون، بل رئيس يعيد إلى لبنان هويته العربية، ويطبّق اتفاق الطائف، ويقوم بعملية انقاذ للوضعين الاقتصادي والمالي، وهذا ما يريده البطريرك الراعي، وكان متفاهماً في لقائه الأخير مع السفير السعودي وليد بخاري على كل الملفات الشائكة.

تعرف السعودية أن الظروف الاقليمية ربما ليست جاهزة للتوصّل إلى تسوية في الوقت الحاضر، إلا أنها قادرة على أن تمنع وصول رئيس محسوب على إيران، وهذا يفيد بأنّ القوى اللبنانيّة التي تحالف السعوديّة، ومن ضمنها الأحزاب المسيحية السيادية، لا تنظر إليها، بصفتها “عامل توازن” مع “العامل الإيراني” فحسب، بل تجد فيها “حبل خلاص” محتملاً من شأنه أن يلعب دوراً حاسماً في “سحب لبنان من جهنّم”، أيضاً. وعليه، فإنّ العودة السعوديّة الى لبنان، بما تملكه من قدرات ذاتيّة، من جهة، وبما تحصّنت به من معطيات محليّة وإقليميّة ودوليّة، من جهة أخرى، يحوّلها الى خطر حقيقي على أهداف “حزب الله”.

بطبيعة الحال، لن يقف “الحزب”، وهو يملك ما يملكه من قدرات، مكتوف اليدين أمام هذه القوّة السعوديّة التي تُهدّد مكتسباته الكبيرة، بل سوف يُواجه، بأكبر قدر ممكن وبكل الوسائل المتاحة، حتى يحبط المسعى السعودي، بالحدّ الأقصى وحتى يُخفّف من وطأته، بالحدّ الأدنى.

لكن “الحزب” لن يذهب إلى أبعد من “الحرب الاعلاميّة”، وسوف يرضى بـ”تسوية” يسوّق لها مقرّبون منه قوامها: انتخاب رئيس للجمهوريّة توافقي من دون خداع، أي رئيس قد يكون إسمه العماد جوزيف عون المرضى عنه خليجياً وأميركياً وفرنسياً، ولا يستفز “حزب الله” وايران، وخصوصاً مع اقتناع “الحزب” بأن الظروف غير مؤاتية لوصول سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا، وهذا ما سيظهر بوضوح في الأيام المقبلة.

شارك المقال