بيروت “الكئيبة” بغياب “سعدها”!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

منذ العام 2000 وأنا أتردد على بيروت مرتين في السنة لتمضية الإجازة مع العائلة، فبيروت كانت – ولا زالت على الرغم من كل شيء – مدينة من أجمل المدن وست العواصم بحلوها ومرِّها. كانت زيارة وسطها التجاري طقساً مقدَّساً لدي مذ تطأ قدماي أرضها. كانت هذه الزيارة تمدني بالأمل والإصرار على مقارعة مشكلات الحياة، وكان التجوال في شوارعها يمدني بطاقة وسعادة لا توصف، لاعتقادي وإيماني بأن إعادة إعمارها بعد الحرب كانت بمثابة معجزة صنعها الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم نكن نتوقعها نحن أبناء الجيل الذي شهد سنوات نهضتها قبل الحرب، ومن ثم كبْوَتَها ودمارها الرهيب خصوصاً وسطها التجاري الذي إكتشفنا هوله في بداية التسعينيات، عندما تسنت لنا زيارته بعد إنتهاء الحرب، وسطها الذي شهد أشرس معارك الحرب الأهلية وأبشعها دماراً وحقداً على بيروت وبالتالي على لبنان بإعتبارها قلبه ورئته. عادت بيروت بعد الحرب وبوجود الرئيس رفيق الحريري لؤلؤة من لآلئ العالم، تغفو وتنام وتصحو وهي آمنة مطمئنة بأن هناك من يرعاها ويسهر على راحتها ليوفر لها الأمن والأمان، كطفلة تنام في حضن أبيها.

في 14 شباط 2005 تيتَّمت بيروت، وشَعَرتْ بفداحة الخسارة وبأنها فقدت الأمان عندما فقدت راعيها، فكان إحساسها صادقاً لأن لبنان ما بعد غياب رفيق لم يكن ولم يعُد كما كان قبله، يومها رفضت بيروت الاستسلام فإنتفضت ولبنان معها، وأزالت صخرة الوصاية والنظام الأمني عن صدرها، وألبست العباءة لسعد الحريري إبن الشهيد، ومرت شهور قبل أن تلملم بيروت جراحها بجهد ومتابعة من سعد، لتنهض من جديد كما أراد لها الشهيد، على الرغم من كل السهام التي أصابت بعض أبطال ثورتها ورموزها في مقتل، أمثال جورج حاوي وسمير قصير وجبران تويني ووليد عيدو وبيار الجميل وغيرهم. وعلى الرغم من كل الظلم والتعسف الذي لحق بها جراء تمسكها بخيارها إبان الصراع على المحكمة الدولية وغيرها من السياسات، إستمرت بيروت في مقاومتها حتى بعد غياب “سعدها” عنها لفترة من الزمن جسدياً بسبب الظروف السياسية والأمنية عام 2011، لكنه بقي حاضراً سياسياً وإجتماعياً يرعى بيروت ويقاوم من أجل بقائها سيدة العواصم، تناسى الإساءات وتجاوز عن السيئات وطعنات الغدر به لأجلها، ربط النزاعات وتحمَّل المزايدات من الأقربين والأبعدين في سبيلها، عقد التسويات من أجل تحييدها عن الصراعات الإقليمية، ترك السلطة نزولاً عند رغبة الناس عندما إنتفضت في 17 تشرين 2019، ولم يتحمل أن يُتَّهم بأنه العقبة في وجه التغيير، تجرَّع السُم في محاولة إخراج بيروت ولبنان من عنق الزجاجة عبر دعم تشكيل حكومة إختصاصيين مستقلة عن الأطراف السياسية، صبر على هرطقات العهد وإساءاته الشخصية له في سبيل تشكيل حكومة جديدة وفقاً للمبادرة الفرنسية بعد مأساة إنفجار المرفأ، تلقى الطعنات في صدره وظهره من “أهل البيت” العائلي والسياسي، فعضَّ على الجرح حتى فاضت الكأس، فاستودع الله هذا البلد الحبيب لبنان وعاصمته وأهله، وغادر من دون أن “يبق البحص” الذي إبتلعه طيلة مسيرته السياسية، شأنه بذلك شأن كل النبلاء الذين يتحملون مسؤولياتهم بصمت من دون شكوى أو محاولة تبرير لأخطائهم، ومن دون منَّة أو “تربيح جميل” لأحد.

بالأمس، مر ببالي هذا الشريط من الأحداث وأنا أمارس عادتي في التجوال في بيروت كلما وطأت قدماي أرض هذا الوطن. كانت بيروت بالأمس كئيبة، مظلمة شوارعها لا أثر للأعياد فيها، ليست بيروت التي عرفتها في السنين الماضية خصوصاً في أعياد آخر السنة، التي كانت تملأ القلب فرحاً وأملاً وسروراً بوجود سعد الحريري ورعايته. بدت بيروت بالأمس كأم حزينة، تفتقد ولدها الغائب و”سعدها”، لا يملأ عينها ولا يواسي وحدتها ويؤنسها كل أولئك الذين تصدوا وتفرغوا وتجندوا لمهاجمة سعد وحصاره بذريعة تقصيره في حقها، وتصدروا المشهد الإنتخابي طارحين أنفسهم بديلاً له، ناسين أو متناسين أن البديل ليس كالأصيل، وأن العلاقة بين بيروت وسعد، وقبله رفيق ليست علاقة عادية بين زعيم يعطي ومدينة تأخذ أو العكس، بل هي علاقة حب متبادل عمادها الوفاء والاخلاص والتضحية، علاقة بيروت “الفتاة” بأبيها مع رفيق، وبيروت “الأم” بإبنها مع سعد، علاقة لا يلعب فيها المال والاعلام دوراً أساسياً، بل هو دور مكمل ومترجم لعمق العلاقة بين الطرفين.

قد يرى البعض في هذا الكلام مبالغة أو محاباة أو محاولة تبرئة لسعد الحريري من أخطاء سياسية إرتكبها، لكن الواقع بالتأكيد ليس كذلك، فالكلام هنا ليس سياسياً ولسنا في وارد الدفاع عن سعد الحريري أو مناقشة خطواته السياسية، وذلك ليس تهرباً أو لأن الدفاع عنه تهمة كما قد يتوهم البعض، ولكن لأن هذه ليست مهمتنا أولاً، ولأن ما نكتبه هو فعلاً نتاج شعور شخصي صادق وحقيقي إنتابني بالأمس بعيداً عن كل ما هو جدل سياسي، هو شعور إنسان يحب بيروت، يفرح لفرحها ويحزن لحزنها، بيروت بالنسبة اليه أكبر من مدينة، هي رسالة تعايش وتفاعل مع الآخر وإحتضانه، ونموذج حياة إجتماعية وثقافية منفتحة، يعز علي كأي مواطن لبناني مخلص أن تكون بيروت هذه حزينة ومهملة مُطفأة شوارعها، وهو وضع يؤكد ما إرتكبناه بحقها كلبنانيين وعرب سابقاً ولاحقاً، وترجمه نزار قباني عندما قال: “وحمَّلناكِ يا بيروت معاصينا، وأهديناك مكان الوردة سكينا”.

في السابق هيأ الله لبيروت رفيق الحريري وكان نِعم الرفيق، فقامت من تحت الردم والدمار وإنطلقت من بين الرماد طائر فينيق جديداً، فهل يعود قريباً لبيروت سعدها بعودة “سعدها” وإبن رفيقها، بعد أن سقطت الأقنعة عن وجوه الكثير من المتطفلين عليها، وثبت للقاصي والداني بأن بيروت ولبنان لن يكونا أفضل بغياب سعد الحريري عن الساحة، لتعلن قيامتها مرة أخرى وتكون مقدمة لقيامة لبنان بعد أن بلغ الإنهيار مداه؟ نأمل ذلك وإن غداً لناظره قريب.

شارك المقال