تنبؤات رأس السنة… رسائل سياسية متبادلة!

زياد سامي عيتاني

توقعات ما يسمى بالعرّافين والمنجّمين ومستقرئي الطالع والمستقبل في لبنان، ظاهرة توسّعت في السنوات الأخيرة، عندما خصّصت المحطات التلفزيونية مساحة واسعة من هوائها ليلة رأس السنة لاستضافتهم، والترويج لهم من خلال حملة إعلانية ضخمة، وذلك لنشر التوقعات والتنبؤات، التي جعلت منهم نجوماً يتفوّقون على نجوم الفن والغناء، نظراً الى ما يُثيرونه من اهتمام وفضول عند النّاس لمعرفة ما يخبئه المستقبل، وعلم الغيب لهم!.

فهذه الظاهرة جعلت أصحاب المحطات التلفزيونية يستغلونها كوسيلة لاستقطاب الجمهور وتحقيق أعلى نسبة مشاهدة، على الرغم من كلّ الانتقادات التي تطالهم، وسط منافسة حادة في ما بينهم، يسوقونها متسلحين بالاحصاءات التي تظهر أنّ الجمهور يتابع هذه البرامج، مما يسمح لهم بالحصول على وفرة استثنائية من الاعلانات، التي تحقّق لهم أرباحاً خيالية.

كيف نجح المنجمون في فرض أنفسهم؟

إنّ نجاح ظاهرة التنجيم يعتمد على عنصرين أساسيين: الأول هو المُنجّم الذي يتمتّع بحنكة وبثقة كبيرة في النفس، وقدرات كبيرة على الإقناع، أما العنصر الثاني فيعتمد على ضعف شخصية الفرد المتلقي لما يقوله المنجّمون وإستعداده لتكريس المال والوقت لهما.

فالتنجيم كناية عن شخص ذكي، يتحكّم بأشخاص ضعفاء النفوس بحاجة الى الشعور بأنّهم يتعاطون مع قوى خارقة، تستطيع تقديم إجابات مباشرة حول مخاوفهم، وإرشادهم إلى ما يحتاجون.

الأوضاع المضطربة والاعلام:

– سبب إنتشار الظاهرة:

السؤال الذي يفرض نفسه أمام هذه الظاهرة، لماذا بات اللبنانيون المشهود لهم بالوعي والتعلّم والثقافة يتعلقون بها، منجرفين بشغف ليترقّبوا ما يتوقعه مدّعو المعرفة في عالم الغيبيات؟

أصحاب الاختصاص في علم الاجتماع يرجعون سبب هذه الظاهرة المَرَضيّة، إلى الواقع المضطرب الذي يعيشه اللبنانيون من جهة، وإستغلال المحطات التلفزيونية لهذا الواقع لأسباب تجارية بحتة، من خلال بيع مشاهديها الأوهام بالترويج والتسويق للأسماء اللامعة في مجال التنبؤات بأسلوب لا يخلو من التشويق والتبخير، وبالتالي إستضافتهم عبر هوائها، وسط تضخيم ومبالغة في تجهيز “الاستديوهات” الفخمة لهم، لإبهار المشاهدين وجذبهم، من جهة ثانية.

– الأزمة السياسية والاقتصادية:

غالباً ما تلقى تحليلات المنجّمين وتوقعاتهم الرواج عند الشعوب المُضطربة، أو غير المستقرة، أو في البلدان التي تشهد أحداثاً غير عادية، وفي المقابل يتقلَّص دور هؤلاء المُنجمين في الدول المستقرة، أو التي تعيش في حالة من الرخاء والأمان.

فالغارق في بحر من القلق على الحاضر والمستقبل، والخائف مما تخبئه له الأيام والتطوّرات، قد لا يكون أمامه سوى التمسّك بحبال “العرّافين” وسواهم من بائعي الأمل والوهم ومغدقي النصائح.

من هنا، يمكن تفسير هذه الظاهرة الطارئة، والتي يعود تاريخها إلى القرون الوسطى.

فحالة اليأس والاحباط والمعاناة والمآسي والعجز التي يعيشها اللبنانيون أمام الأزمة السياسية والإقتصادية تجعلهم ينجرفون بطريقة لاإرادية إلى فضاء الوهم والخيال، حيث يجدون فيه متنفساً لما لا يمكن أن يحمله لهم الطالع من أمل يعيدهم إلى شاطئ الأمان، ولوكان خيالاً!.

– المحطات التلفزيونية بين الربح والتوجهات السياسية:

أخلاقيّات مهنة الاعلام تحتّم على المؤسسات الاعلامية والعاملين فيها إحترام المشاهد وعدم استغلال الظروف التي تحيط بها، بهدف تحقيق صفقات ربحية، من خلال اللعب على مشاعره وحاجاته.

لكن للأسف، المؤسّسات الاعلاميّة اللبنانيّة لم تضع أيّ شرعة أخلاقيّة لتنظيم عملها، بل همّها الوحيد جني الأرباح بأيّ وسيلة متاحة، ولو على حساب سمعتها ومصداقيتها.

وتبني كلّ محطة تلفزيونية لمنجم أو عرّاف، وتخصيص برامج دائمة أو موسمية له كليلة رأس السنة، تسيء الى صورة الاعلام اللبناني، وترتكب جرائم بحقّ الشعب اللبناني، متخطيّة كلّ أخلاقيات المهنة، ومتنازلة عن رسالتها، لتحقيق مردود إضافي كبير من الاعلانات.

والأسوأ من ذلك، أنّه بات لكلّ محطة منجمها السياسي، الذي يُعبّر بشعوذاته الغيبيّة عن توجهات الفريق السياسي الذي يمتلك المحطة، بحيث تأتي “تنبؤاتهم” المزعومة التي هي أقرب إلى التمنيات، بما ترغب فيه الجهات السياسية المشرفة على المحطة، لتصبّ في مصلحتها، كما أنّها تحمل رسائل سياسية، أضافت إلى قاموس المفردات المتداولة مُصطلح “التنجيم السياسي”، من دون مراعاة العوامل النفسية السلبية التي يمكن أن تتسبّب بها “إستلهاماتهم” على المتابعين، خصوصاً عندما يقدّمون توقعات يحذرون فيها من اغتيالات وأزمات سياسيّة وأخرى إقتصاديّة وأمنية، فضلاً عن الكوارث التي ستتربص بلبنان.

الموقف القانوني:

على الرغم من أنّ القانون اللبناني يعاقب من يمارس هذه الأعمال إذا كانت بقصد الربح وجني منفعة عن طريق الاحتيال، وفقاً لنصوص واردة في قانون العقوبات، فإنّ القضاء لم يحرك ساكناً للتصدي لهذه الظاهرة الكارثية، على الرغم من توافر كلّ العناصر الجرمية.

فالمادة 768 التي عُدّلت بموجب القانون رقم 239 عام 1993، تعاقب بالتوقيف التكديري وبالغرامة من عشرة آلاف إلى عشرين ألف ليرة من يتعاطى بقصد الربح مناجاة الأرواح، والتنويم المغنطيسي، والتنجيم، وقراءة الكفّ، وقراءة ورق اللعب، وكلّ ما له علاقة بعلم الغيب، وتصادر الألبسة والعُدد المستعملة. ويعاقب المكرّر بالحبس حتى ستة أشهر، وبالغرامة حتى المئتي ألف ليرة لبنانيّة. ويمكن ترحيله إذا كان أجنبياً.

كذلك، فإنّ هذه الممارسات ممنوعة لأنّها تُعتبر أيضاً نوعاً من الاحتيال والغشّ بحسب المادة 655 من قانون العقوبات، التي يشير البند الثاني منها إلى تلفيق أكذوبة يصدّقها المجني عليه، نتيجة تأييد شخص ثالث، ولو عن حسن نية، أو نتيجة ظرف مَهّد له المجرم أو ظرف استفاد منه.

إنّ رواج ظاهرة المنجمّين والعرّافين وقارئي الغيب في لبنان لا يرتبط بمدى عقلانية المشاهد أو ثقافة تصديق تلك التوقعات أو عدم تصديقها، بل تحوّل إلى استغلال المحطات التلفزيونية الأحداث المتسارعة، لاستقطاب النّاس، وتنامي الفضول المتبادل بين المحطات والجمهور، في ظل غياب المحاسبة القضائية، بسبب حماية السياسيين لها، ووقوفهم خلفها للتأثير النفسي إيجاباً على جمهورهم، وسلباً على جمهور خصومهم.

شارك المقال