أم دولار

الراجح
الراجح

فيما كنا أنا والصديق الصحافي ابراهيم سلامة نجلس كما تعوّدنا في إحدى زوايا مقهى أوتيل “البريستول”، الذي كان من ضحايا الاستراتيجيةّ المعتمدة لتدمير كل لبنان الجميل، نبحث “انكباب” مجلس الأمن القومي الأميركي على الموازنة العامّة برئاسة “أبو المراجل” الرئيس ريغان في حينه، جاء لإبراهيم خبر مقتل زكيّة س.ح. عن عمر تواصل حتى الثانية والسّتين. وذاك القتل حصل في أحد شوارع بيروت.

من هي زكية س.ح.؟

إنها “أم دولار”. هذا ما كان لقبها لأكثر من أربعين سنة. وكل الذين سَرَحوا ومَرَحوا في شوارع الزيتونة وفينيسيا وباب إدريس، إن لم يعرفوها – يتذكرونها على الأقل.

إمرأة راهنت منذ صباها على أمرين: انتصار القطاع العام، وقد كانت جزءاً منه، وانتصار الدولار الأميركي.

لذلك كان يميل الكثيرون، من منظّري ذاك الزمان الى أن “أم دولار” هي من أوحت للمارشال اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو ولزميله الهندي جواهر لال نهرو بفكرة الحياد الإيجابي التي هي عملياً تطبيق سياسة القطاع العام داخليّاً، والبحث عن الدولار الأميركي خارجيّاً. ونحن مع احترامنا لخبرة المنظِّرين وتجربتهم لم نشاطرهم ذاك التفاؤل. كانت زكيّة ترفّه عن معاشريها في بيروت، معتمدة مبدأ “التسيير الذاتي”، أي لا وكيل ولا ترجمان ولا حتى “بارمان” يتوسط بين محتوياتها الخاصة وبين مطالب زبائنها. ولكنها امتازت بشيء أساسي غلب على اسمها، وهو أنها لم تعترف بجميع عملات العالم المحلية والاقليمية والدولية وراهنت على الدولار، لذلك سُمِّيَت وعُرِفَت بـ “أم دولار”. وذلك الرّهان على الدولار لم يكن وليد ثقافة مالية كينزية – ماركسية، ولا نتيجة للانتساب إلى حزب أميركا. 

آمنت زكية بالدولار وصمدت وناضلت في سبيله منذ أيام الفرنسيين، مروراً بالعهد الاستقلالي الأول وزميله الثاني، حيث لم يكن للدولار بعد ذلك البريق وتلك الأهمية. لكن الصمود يصدر دائماً عن إيمان عنيد بما يظن الإنسان أنه الصواب.

وهُدِّمت بيروت بـ “الدولارات” فانشطر إيمان “زكية”. من جهة، صحّت نبوءتها بسلامة الدولار وديمومته، ومن جهة ثانية، رأت المدينة التي رعت يفاعتها وشبابها تتمزق وتتقاتل حائلة بين متعتها في المشي نهاراً وفي التسكّع ليلاً.

بالتأكيد، تضايقت من قذائف “الشرقيّة” على “الغربيّة” أو عكسه، لكن إيمانها بديمومة الدولار عزّاها قليلاً، لأنه كان – حسب رأيها – القاسم المشترك الوحيد لتلك الحرب.

وفي ذاك اليوم، سقطت زكية في أحد شوارع بيروت ضحية قنص أعمى. ولولا نشر صورتها لما عرف العارفون أنّها “أم دولار” لأنها صُرِعَت في الأسبوع المجيد الذي وصل فيه الدولار إلى أعلى مرتبة ماليّة له في تاريخ لبنان منذ وعد الجنرال غورو المدفون على بلاطة إلى جانب “نهر الكلب”.

قد تكون السيدة زكية ذهبت ضحيّة انتصار فكرتها، كما يحدث مع كل العلماء؛ وقد يكون ذهابها مصادفة؛ وقد لا يكون إلا أنها رحلت في النهاية… وفي القديم، قال المعلم الكبير: “لا تعبدوا ربين، الله والمال”. ويبدو أن زكية فهمت الآية بالمقلوب، فتناست الرب وعبدت الدولار. لكنها لم تكن وحيدة في ذلك التفسير على الشاطئ الفينيقي القديم. وعاشت زكية تحلم بالدولار، وحملت اسمه “أم دولار”، وصرعها رصاص مصنوع من “دولار” لا تعرف لونه ولا رقمه! ودُفِنت وسط مأتم تخلّله رصاص الدولارات.

كم “مومس بالمذكر… أيضاً”، (بالإذن من الأديب والصحافي فارس خشان) في أيامنا هذه يصح فيهم وعليهم لقب “أبو دولار”.

شارك المقال