لبنان الكبير… إلى أين؟

محمد علي فرحات

يمرّ لبنان الآن في مرحلة تتجاوز المحطات الصعبة التي رافقت تاريخه الحافل بالنجاحات والإخفاقات. هذه المرة تجتمع سلبيات كثيرة بدءاً بجائحة كورونا ومرورا بالانهيارات في بنى الدولة والإقتصاد والسياسة والإجتماع، المؤدية إلى قلق غير مسبوق على مستقبل الدولة والشعب. 

شهدنا ونشهد ولادات متعسرة للحكومات وممارسات متعثرة ناتجة عن انعدام الثقة بين النخب السياسية، بخطاباتها المتناقضة القائمة على الحذر المتبادل، والتي تترافق مع اندراج جماعات وازنة في صراعات إقليمية تزداد تأزماً وتنذر بالأسوأ. 

ها هو الرئيس المكلّف سعد الحريري يواجه العراقيل في تأليف حكومته العتيدة، خصوصاً من رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يفترض أنه راع لعملية التأليف ومسهل لها حرصاً على مصلحة الدولة والشعب، فيما هو يمارس العرقلة والتشدّد في المطالب كأنّه رئيس فريق سياسي وليس رئيسا لجميع اللبنانيين. وهو لا يجد حليفاً سوى “حزب الله” الذي يبدو محرجاً بعد مواقفه المؤيدة تكليف الرئيس الحريري والتعجيل في تشكيل الحكومة. 

مع سوداوية المشهد لا يغيب الأمل باستعادة لبنان حقيقته ووجوده الفاعل، كأنّه طائر الفينيق حين يحترق ويولد مجدداً من الرماد. هكذا كان الأمر في محطات كثيرة من تاريخه الحديث. مئة عام من العثرات والنجاحات ولا تزال كثرة من اللبنانيين تؤمن باستعادة وطنها من فم التنين. كلام خيالي! ربما، ولكن كان ذلك حقيقة في أزمات طواها اللبنانيون متجاوزين آلامهم.

إلتقيت أعلاماً من لبنان لا داعي لذكر أسمائهم كانوا يترقبون موت وطنهم مع مطلع كل سنة جديدة. وتنطوي أعمارهم فيما الوطن يعاود حياته بما يشبه المعجزة. عند إعلان دولة إسرائيل عام 1948 كتب ميشال شيحا في جريدة “لوجور” إن هذا الإعلان يشير إلى موت قريب للبنان، وفي كتابه الشهير “فلسطين” تسجيل لنقاط التناقض بين التعددية اللبنانية ووحدانية الدولة العبرية الوليدة. بعد العام 1948 اختنق لبنان في حدوده الجنوبية اقتصادياً وإنسانياً، وتعثرت حياة السكان في حواضر مهمّة مثل صور وجديدة مرجعيون. وبعد هزيمة 1967 تفاقم اختناق لبنان باحتلال إسرائيل الجولان السوري المتاخم لحدوده الجنوبية الشرقية، ليذهب الحكم في دمشق إلى مزيد من التوتر وينتهي إلى القبضة الحديد مع حكم الرئيسين حافظ وبشار الأسد. وسرعان ما انتقل التوتّر إلى لبنان مع أيلول الأسود الأردني الذي أعقبه انتقال مقاتلين فلسطينيين كثر إلى جنوب لبنان وإلى بيروت عبر ممر رعته السلطة السورية. في تلك المرحلة تكرّس الحضور العسكري للمقاومة الفلسطينية مستنداً إلى اتفاقية سبق أن عُقدت في القاهرة برعاية السلطة المصرية، وبذلك دخل لبنان عصر السلاح الفلسطيني ما دعا إلى تسلّح جماعات لبنانية مؤيدة ومناهضة، وبذلك تمهّدت الطريق إلى الحرب اللبنانية التي اشتعلت في العام 1975 واستمرت مع تبدّلات في الأبطال والأدوار حتى مطلع التسعينات لتنتهي باتفاق الطائف الذي رعته المملكة العربية السعودية بتأييد من جهات عربية ودولية عدّة. 

وفي سياق الحرب اللبنانية تلك حدث كبير هو الاحتلال الإسرائيلي الذي كانت له بداية صغيرة العام 1978 لكن الإجتياح الكبير حدث في العام 1982 وأسقط بيروت أو ل عاصمة عربية يدخلها الجيش الإسرائيلي. 

أدّت الحرب الأهلية والإحتلال الإسرائيلي إلى متغيّرات في الخريطة السياسية إذ غابت أو ضعفت شخصيات وبرزت في المقابل شخصيات جديدة، كما دخل العمل السياسي في خرائط معقّدة فلم يعد مقتصرا على الزعامة المحليّة. وأبرز مثال هو رفيق الحريري الذي غذّى حضوره السياسي المحلي بعلاقات عربية ودولية مميّزة. ويذكر الجميع صورة رئيس وزراء لبنان ممسكاً بيد رئيس جمهورية فرنسا وهما يسيران معاً في الوسط التجاري لبيروت، كما يذكر أيضا الحريري نفسه يقود سيارته في شوارع العاصمة وإلى جانبه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز. 

لكنّ التغيّرات الإيجابية التي اقتضاها اتفاق الطائف لم تكتمل، استمر الوجود العسكري والأمني السوري يمارس الوصاية مباشرة أو بأقنعة متعددة. بذلك صار لزاماً على الرؤساء والوزراء أن ينسّقوا مع المسؤول العسكري للقوات السورية المقيم في بلدة عنجر البقاعية، ووقف هذا المسؤول دائما في خلفية انتخاب الرؤساء وتأليف الحكومات. 

في هذه الأجواء جرى ما يشبه تقسيم العمل بين الحكم والمقاومة، فاستقل “حزب الله” في ساحات المعارك وما يقتضيها من حصانات وضمانات، مبقياً على مسافة شكلية تبعده عن المشاركة السياسية في الحكومة والبرلمان، حتى بلغت الأمور نضجها في رأيه، فأدخل أعضاء منه إلى البرلمان وسعى إلى تعيين أعضاء آخرين على رأس وزارات بعضها أساسي وسيادي. 

حضور “حزب الله” هذا في السلطة السياسية تسبّب بحساسيات لبنانية داخلية وبمثلها مع دول عربية، بعضها تربطه بلبنان صلات متينة وعريقة. وتفاقم الأمر مع تدخّل مسلحي “حزب الله” في الحرب الداخلية السوريّة وفي العراق واليمن، ما أدّى إلى انكماش في علاقات لبنان العربية وصل أحياناً إلى حدود القطيعة. ومثلما حدث مع العرب حدث مع الغرب فظهرت حساسيات أوروبية وأميركيّة حرمت لبنان واللبنانيين من مجالات الإتصال والعمل والتفاعل التي مارسوها طوال عقود. 

وأدّى الإتصال العقائدي لـ “حزب الله” مع النظام الإيراني إلى شرخ اجتماعي داخل لبنان، فاقمه استشهاد الرئيس رفيق الحريري وإنشاء محكمة دولية حول الجريمة خلصت إلى اتهام أحد أعضاء “حزب الله” بارتكابها. ولم يعمد “الحزب” إلى تسليم المتهم بل لجأ إلى الصمت في قضية لا تحتمل النسيان وتشكل مادة خصبة لاهتمام اللبنانيين وتعاطفهم. 

الإنهيار اللبناني الحالي يترافق مع تحديات انفراط العقد الاجتماعي في سورية والعراق حيث تفككت الدولة ومعها الجماعات الأهلية، ووصل الأمر في سورية إلى أن تصبح محلاً لاجتياحات عسكرية وسياسية إيرانية وتركية وروسية، فيما يخفت صوت الحكومة المركزية في دمشق ويتراجع تأثيرها في المناطق. بهذا يكون لبنان محاصراً من إسرائيل- بطبيعة الحال- ومن سورية، وعاجزاً عن تنشيط علاقاته العربية والدولية لكونه محل شك من الجميع حين يبدو ساحة صراع أكثر من كونه وطناً لأهل يستحقونه.

وفيما كانت الطائفية في لبنان نوعاً من الفولكلور المخجل وكان مؤيدوها يؤكدون أن لا خوف منها لأنها معلنة ولأن معاركها صارت جزءاً من تاريخ مضى وانقضى، برزت الطائفية وتبرز في شكلها الدموي في سورية والعراق، بعدما كانت مغطاة بثوب العروبة وشعار حزب البعث الحاكم. 

ونجد اللبنانيين اليوم يجهدون بحفظ ما تبقى من وطنهم أمام رياح الطائفية العمياء الآتية من سورية والعراق، وربما من إيران أيضاً على رغم بعدها الجغرافي وأوهامها حول وحدة إسلامية مشروطة بقيادة طهران.

في هذه الصورة السلبية إلى أين يسير لبنان الكبير؟

ربما يشهد أنواعاً من التفتّت تعجز عن تدمير آليات الاجتماع اللبناني المتراكمة منذ أكثر من مئة سنة. ومن باب المصلحة المباشرة كما من باب الممارسات الفكرية، لن يجد اللبنانيون نفعاً من حرب أهلية سبق أن خبروها وذاقوا مرارتها، بل لا يمكن لأي حرب أن تحدث بين فقراء يبحثون عمن يموّل طعامهم لا عمن يموّل حروبهم. 

ولن ينسى اللبنانيون أن وطنهم الذي تكرست دولته بعد الحرب العالمية الأولى واستقلت خلال الحرب العالمية الثانية، هو عضو مؤسس في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومشارك في وضع الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. وكانت بيروت، وربما لا تزال إلى حد ما، مختبرا حضاريا ومنطلقاً لأفكار نهضوية عربية. تشهد على ذلك نخب المنطقة من الذين تخرجوا في جامعات بيروت، خصوصا الجامعة الأميركية. كما أن الأفكار التأسيسية للنهضة العربية ولدت في بيروت بعناية رواد معظمهم لبناني. 

وكان لبنان كبيراً حتى قبل تأسيس دولته عقب الحرب العالمية الأولى، فالمتصرفية كانت تتفاعل مع جوارها في المناطق اللبنانية الأخرى، وكانت بيروت مركز ولاية عثمانية تسمّت باسمها في عهد المتصرفية، لكنّ النخب الآتية من جبل لبنان هربا من حروبه الأهلية استوطنت بيروت وأسست نهضة للبنان وديار العرب.

لبنان الكبير أمام تحد كبير، يبدأ بتجاوز المجاعة وتجديد النخب السياسية والثقافية والإقتصادية بعيداً من محترفي التعصب والتحامل وتجارة الفتن. وليس ذلك صعباً على لبنانيين عاشوا السنوات المئة الأخيرة يعبرون من مشكلة إلى مشكلة ويتجاوزونها بنجاح نتيجة خبرة العيش ووعي أهمية التنوّع الإنساني.   

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً