الرئاسة والزعماء الموارنة… أنا أو لا أحد

الراجح
الراجح

منذ حرب الجبل سنة 1983 بدأت تظهر بوادر صراع داخلي على السّلطة والقرار السياسي في حزب “الكتائب” بلغت ذروتها بإلغاء أمين الجميل “اتفاق 17 أيار” في نيسان 1984 وإعلان التزامه بالاصلاحات السياسية والخيار السوري. يضاف إلى ذلك محاولة الجميِّل فرض سيطرته على قيادة “القوّات اللبنانية” مروراً بانتفاضة الأخيرة عليه في 12 آذار 1985 وإجهاضها “الاتفاق الثلاثي”، ومحاولة إيلي حبيقة اختراق المنطقة الشرقية في أواخر أيلول 1986. كما تدخل “حرب التحرير” التي خاضها الجنرال ميشال عون ضد الجيش السوري والصدامات الدامية بين عون وجعجع ومحاولة الأول إلغاء الثاني ضمن ملف الصراع على القرار المسيحي في المناطق الشرقية.

ومن تداعيات الصراع على القرار انقسام “الكانتون الماروني” إلى ثلاث مناطق رئيسة تسيطر عليها القوى الميليشيوية: آل فرنجية في الشمال ينافسهم الكتائبيون وآل الدويهي، خصومهم التقليديون؛ وحزب “الكتائب اللبنانية” و”القوات اللبنانية” في المناطق الوسطى للكانتون الماروني؛ وفي جنوب الكانتون برز حزب “الوطنيين الأحرار”… كميل شمعون وابنه داني منذ آب 1985.

وما لبث الوضع أن انفجر بين الخصوم المتربصين ببعضهم بعضاً عندما طالب الجميِّل، ومعه القيادة في حزب “الكتائب”، جعجع بتسليم حاجز البربارة ورفض الأخير الانصياع الى هذا القرار. وكان هدف الجميل من وراء ذلك تقليص الموارد الماليّة لـ “القوات” وبالتالي إضعافها. كان حاجز البربارة شرارة الصراع المؤجَّل بين جعجع وأمين الجميِّل، ما أدى في 10 آذار 1985 إلى طرد جعجع من “القوات اللبنانية”، وفي اليوم التالي، عقد وحبيقة حِلفاً على الرغم من التناقضات وانعدام الثقة بينهما. فقد جمعهما عداؤهما لسياسة الجميل باستعادة القرار في حزب “الكتائب” وأعلنا في 12 آذار عن “انتفاضة القوات اللبنانية – حركة القرار المسيحي” ضد الجميِّل وحزب “الكتائب”.

هكذا وجد الجميِّل نفسه في مواجهة كل “القوات اللبنانية”. وبين 12 و14 آذار سنة 1985 تداخلت مساعي التهدئة مع محاولات “القوات” للسيطرة على الوضع العسكري في المناطق الشرقية. لكن مؤتمر بعبدا[1] واجتماع بكركي[2] في يوم 13 آذار فَشِلا في إيجاد تسوية سياسية للصراع الذي شهد تشكيل هيئة الطوارئ في “القوات اللبنانية” والسيطرة على إذاعة “صوت لبنان” الكتائبية وغيرها من المناطق والمؤسسات.

بعد توقيع إيلي حبيقة على الاتِّفاق الثلاثي اندلعت الحرب بينه وبين جعجع يوم 15 كانون الثاني 1986 ودخلت على خط الحرب وحَدات من الجيش اللبناني بأمرة قائد الجيش ميشال عون للقتال ضد حبيقة. فدلّ تشكيل هذا “الحلف” العسكري على الهدف السياسي لجعجع – الجميِّل – عون، وهو إجهاض “الاتفاق الثلاثي”. أما سبب انضمام الجميل وعون إلى “الحلف” فيعود إلى أن نجاح الاتفاق الثلاثي في حينه بجناحه الماروني كان يضع مستقبل كل من الجميِّل الساعي الى التمديد وعون الساعي الى الرئاسة في خطر.

بعد إسقاط “الاتفاق الثلاثي” بتحالف “القوات اللبنانية” والرئيس أمين الجميِّل وقائد الجيش ميشال عون حدثت تطورات خطيرة في المنطقة الشرقية شكلت آخر محطة من محطات الحرب الأكثر انقساماً على الصعيدين السياسي والمؤسساتي، فضلاً عن عنفها ودمويتها. فأدت إلى نتائج سلبية على صعيد المؤسسات الدستورية وإدارة الشأن العام طوال السنوات الثلاث التي كانت متبقية من حكم أمين الجميِّل.

وقد حمّلت الزعامات الاسلامية واليسارية رئيس الجمهورية مسؤولية إفشال “الاتفاق الثلاثي” وقررت مقاطعته وعدم التعاون معه. وفي هذه الأجواء، قدم الرئيس رشيد كرامي استقالة حكومته وتعذَّر تشكيل حكومة أخرى في ظل الانقسامات السياسية، مما جعل الحكومة المستقيلة تصرف الأعمال زهاء ثلاث سنوات بموجب “المراسيم والمحاضر الجوالة” من دون عقد جلسات لمجلس الوزراء. كما فشلت مبادرات الجميِّل للمصالحة مع سوريا بين عامي 1986 – 1988 واغتيل رئيس الحكومة رشيد كرامي في الأول من حزيران 1987، ما زاد الوضع تأزماً بين دمشق وكل من الجميِّل وجعجع. وفي هذه الأجواء لم تتمكن المملكة العربية السعودية عبر وسيطها في حينه الشيخ رفيق الحريري ولا المبادرات الفاتيكانية والفرنسية والألمانية والأميركية من وضع لبنان على طريق الحل والسلام.

باستقالة كرامي ثم اغتياله واقتراب معركة رئاسة الجمهورية، دخل لبنان مرحلة جديدة من التأزم والانقسام السياسي ترافق مع ضغط الأزمة الاقتصادية عليه. وفي حين كان حلفاء سوريا (جنبلاط وفرنجية وبري والحص وحبييقة) يواصلون مقاطعة الجميِّل، كان الاستحقاق الرئاسي يشعل الساحات المارونية: أمين الجميَّل الذي يسعى إلى تأزيم الوضع السياسي وعدم إنجاز الاستحقاق الدستوري للوصول من خلال ذلك إلى التمديد، وسمير جعجع الذي رأى أن “القوات اللبنانية” هي التي تحدد الرئيس العتيد ضمن شروطها، وسليمان فرنجية الذي كان يتطلع إلى رئاسة جديدة معتمداً على رصيده بالدعم السوري[3]، وأخيراً قائد الجيش العماد ميشال عون الذي اعتبر نفسه أفضل المرشحين مدعوماً من قطاعات الجيش في المنطقة الشرقية.

مما تقدم نرى أن معركة رئاسة الجمهورية لم تكن يوماً بين المسلمين والمسيحيين أو حتى معركة “وطنية”، وإنما صراع داخل البيت الماروني، ما يذكرنا بقصة الزعيم المصري الراحل سعد باشا زغلول حين حامت حول سريره المنية (بعيد عنكم) قال مخاطباً زوجته: “ما فيش فايدة يا صفية غطيني…”.


[1] عقد في القصر الجمهوري في بعبدا بحضور 62 شخصية روحية وسياسية مسيحية وعلى رأسها البطريرك خريش. ورفض الاجتماع “رفضاً حاسماً لكل محاولة ترمي إلى الخروج عن السياسة اللبنانية والتحذير من خطري التنكر للإجماع اللبناني واللجوء إلى السلام” –  عن “وثائق الحرب اللبنانية لعام 1985″، ص 99.

[2] لم يسفر هذا الاجتماع عن أي نتيجة، أولاً بسبب تغيب جعجع عنه، وثانياً لأن القوات رفضت التفاوض قبل التوصل إلى “خيارات نهائية” – عن “وثائق الحرب اللبنانية لعام 1985″، ص 99.

[3] بكاسيني، جورج. (1993). “أسرار الطائف من عهد أمين الجميِّل حتى سقوط الجنرال مع وثائق ومحاضر”. بيروت. ص 12 و13.

شارك المقال