الفديرالية حل أو انتحار؟ الطائفية أطاحت بالتعدّديّة (1)

زياد سامي عيتاني

يتغنى كثر من النخب الفكريّة والسياسيّة بالتنوّع والتعدّد الطائفي والثقافي في لبنان ويمتدحونه، معتبرين هذه الظاهرة صيغة فريدة، وميزة استثنائيّة، تجعل من لبنان نموذجاً للتلاقي والتعايش، يطلّ من خلاله على العالم حاملاً رسالة الانفتاح والتنوّر، والقدرة التفاعلية مع مختلف الحضارات والثقافات والأديان، ليشكّل نقطة تلاقٍ بين الشرق والغرب بكلّ أفكارهما وتقاليدهما وقيمهما وخصوصياتهما على الصعد كافة.

إذا كان فعلاً هذا التوصيف بكلّ تجميلاته وشاعريته للبنان الدولة والنظام والكيان حقيقياً وصادقاً، فإنّ السؤال الفوري الذي يتبادر إلى الأذهان: لمَ حفل لبنان طيلة مئويته الأولى بهذا الكمّ الهائل من الأزمات والصراعات والحروب ذات الطابع الطائفي والمذهبي، التي بقيت مستمرة ومتلاحقة ومتراكمة بأشكال مختلفة طيلة حقباته الزمنية المتتالية؟

بعيداً عن المثاليات المصطنعة ولغة التكاذب المشترك التي يصوغها الساسة، وحتى المرجعيات الروحية، بالكلمات المنمّقة، كغطاء لما يضمرون في داخلهم، فإنّ الحقائق والوقائع التاريخية في كلّ المراحل والحقبات التي مرّ بها لبنان، تؤكّد بما لا يقبل الشك، أنّه ومنذ نشأته لم يرتقِ إلى دولة مركزية عميقة ومتماسكة وقويّة، يسود فيها حكم القانون دون سواه، على الرغم من بعض فترات الاستقرار والازدهار، التي كانت أشبه بفترات السماح المؤقت، تحضيراً وإستعداداً لمزيد من الأزمات والصراعات المتجدّدة.

وهنا تقتضي الموضوعية المبنيّة على تقويم كلّ أسباب الأزمات التي عاشها لبنان ونتائجها، سياسياً وحروباً، الاقرار بكلّ جرأة ومرارة، بأن هذه التعدّدية التكوينيّة للشعب اللبناني المركّب، لم تكن، وبأسف بالغٍ وشديد، لا نموذجاً للتعايش، ولا رسالة للتلاقي، اللذين بقيا مفتعلين ومفروضين بالاكراه!.

فالتعدّدية تعتبر الخطوة الأولى ليس للتسامح مع الآخر وحسب، وإنّما لتقبّله تماماً كما هو، والتكامل معه على هذا المفهوم، وتنمية النقاط المشتركة بينه وبين الآخرين وتطويرها، وخلق مساحة نقاش وحوار حول الأفكار والمفاهيم المختلف عليها، لتكونَ مصدراً لتبادل وجهات النظر المتنوّعة ولو كانت موضع خلاف، لأنّ هذا السلوك سيعزّز ثقافة التعدّد والتنوّع والتكيّف معها، وسيُصحّح المفاهيم الخاطئة، مع احترام مبادئ الغير، بعيداً عن الأحكام المسبقة، التي تعزّز الكراهية والتفرقة.

فإذا ما عدنا إلى التعدديّة اللبنانيّة، فإنّها لم تتمكّن يوماً من أن تنتج حالة حضارية راقية من التلاقي بين فئات المجتمع اللبناني، لأنّها تعدّديّة طائفية منفتحة ظاهرياً ومنغلقة فعلياً، مما جعلها بما تنطوي عليه من فئوية عنصرية، عنصراً رئيساً في نظام لبنان السياسي، الذي يتطلّب توزيع المناصب والمراكز في الدولة على الطوائف الدينية المختلفة، حتى باتت علاقة الفرد بالدولة تتحدّد من خلال انتمائه الطائفي.

وهذا السلوك في ممارسة السلطة السياسية في لبنان، الذي عزّز وعمّق الطائفية ليس السياسيّة وحسب، بل النفسيّة والفكريّة والوجدانيّة عند اللبنانيين، ساهم بصورة تراكمية في تكريس تكتلات طوائفية داخل مناطق تشكل أكثرية عددية فيها، حتى بلغنا مرحلة متقدّمة من الفرز الطائفي، تشكّلت منه خارطة ديموغرافية – جغرافية لكلّ منطقة على أساس الطائفة أو المذهب، ولو من دون إعلان، الغلبة فيها ليس حصرية (المغيبة عن كثير من المناطق)، بل لقوى الأمر الواقع التي تتحكّم بنفوذها في تلك المناطق، حتى في المسائل غير السياسيّة، والأمنية، كمولدات الكهرباء والصحون اللاقطة للمحطات التلفزيونية وصهاريج المياه.

الخطورة في هذا المسار أنّنا وصلنا في الفترة الأخيرة إلى “الأمن الذاتي”، في موازاة المطالبة باللامركزية الادارية والمالية الموسعة (!). وهذا ما سمح لفريق سياسي لبناني مسكون بهواجس التمايز والتفوّق، بالعودة الى نغمة المطالبة بـ “الفديرالية”، التي ما زالت مختزنة في وجدانه السياسي منذ بدايات الحرب الأهلية عام 1975، كنظام سياسي يؤدّي إلى تقسيم البلاد إلى دويلات (كانتونات) تحكم كلّ طائفة نفسها بنفسها، على أن تنظم القضايا والمصالح المشتركة في إطار “فديرالي”.

(يتبع)

شارك المقال