الفديرالية حل أو انتحار؟ سوء تطبيق “الطائف” (4)

زياد سامي عيتاني

إنّ الانتقائية في تطبيق بنود “الطائف” المقرون بسوء التنفيذ، أجهضت الكثير من روحيته وثقافته، لا سيما ما يتعلق بإنشاء الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية ومجلس الشيوخ، فضلاً عن إبقاء إجراء الانتخابات على أساس القيد الطائفي، مما كرّس مجدّداً الطائفية السياسية، لتصبح متجذرة في كلّ مفاصل الحياة السياسية.

وقد اقترن سوء أداء تنفيذ “الطائف” بصورة إنتقائية مع عودة إمساك النظام السوري بالملف اللبناني بتفويض دولي وعدم ممانعة عربية، بحيث كانت كلّ القرارات المتعلّقة بأوضاع لبنان الداخلية إمّا تُتخذ في عنجر ودمشق، أو كحد أدنى تحتاج إلى موافقة سوريا المسبقة، حتى بلغ الأمر بها، ومن جراء خلافات أهل السلطة، الى الاضطرار للتدخّل في أبسط القضايا الخلافية لحسمها، بحيث قيل في وقتها: “إن تعيين حاجب في إدارة رسمية يتطلّب تدخّلاً مباشراً من غازي كنعان!”.

وكان من نتائج ذلك، أن تجسّد نفسياً وروحياً الواقع “الفديرالي”، على الرغم من تنكر الجميع له وتحاشيهم الاعتراف به.

فالسياسي يصل إلى مركزه بقوة النظام الطائفي الذي اخترعه هو بنفسه مع شركائه الطائفيين، فيمارس السياسة بفئوية فاقعة، وتكون مصلحة الطائفة قبل مصلحة الوطن، ولو سقط الوطن!

لذلك، فإنّ اتخاذ كلّ القرارات المصيرية والعادية، والسياسات، والموازنات، والقوانين، والمراسيم، والتعيينات، يحتاج إلى توافق بين أركان النظام الطائفي مسبقاً، قبل إقرارها من المؤسسات الدستورية، علاوة على الاجتماعات والمؤتمرات والمصالحات التي تقرّر بالإنابة عن المؤسسات الدستورية في كلّ القرارات، تحت ذريعة الاعتبارات الميثاقية التوافقية.

حتى أنّ سوء ممارسة السلطة على صعيد الدولة من أمراء الطوائف، دفعها إلى إنشاء”صناديق ريعية” ذات طابع طائفي ومناطقي، تحت تسميات إنمائية، لمنفعة “جماعتها”، في سياق “التحاصص” على كلّ مقدرات الدولة ومكتسباتها لصالح المرجعيات الطائفية!

ويجب أن لا نسقط من الحسبان، أن تلك المرحلة شهدت إبعاد وإقصاء الزعيمين المسيحيين اللدودين الأبرز الخارجين من صراع دموي بينهما وتدميري للبنية السياسية المسيحية، ميشال عون نفياً، وسمير جعجع سجناً (وحلّ حزبه)، مما ولّد شعوراً متنامياً لدى المسيحيين بالاستهداف وتعطيل دورهم الأساس في إعادة إنتاج مرحلة السلم الأهلي، مع تعالي أصوات من داخل بيئتهم رافضة ما آل إليه دستور “الطائف” من إنتقال السلطة التنفيذية من رئاسة الجمهورية إلى مؤسسة مجلس الوزراء، تكريساً للنظام الديموقراطي البرلماني، مما اعتبروه تجريد الرئاسة الأولى من صلاحياتها. وهذا ما فاقم الشعور بالاحباط لدى شريحة كبيرة من المسيحيين، حتى ترسّخ يأساً لديها من النظام السياسي، الذي جعلها مهمّشة وخارج دائرة القرار، لا بل مستهدفة ومهدّدة، خصوصاً عندما ازدادت حملات الملاحقة والاعتقال في صفوف مناصري “التيار العوني” و”القوات”، وإضطهادهما سياسياً وأمنياً.

بقي الشعور المسيحي بالإحباط والتحجيم السياسي طيلة مرحلة ما بعد “الطائف” يتزايد إلى أن بلغ ذروته يوم 7 آب 2001، الذي اعتُبر محطة مفصلية في تاريخ لبنان.

يومها قبضت قوى الأمن اللبنانية على مئات الشباب الذين كانوا يتظاهرون من أجل حريّة التعبير وضد النظام السوري الذي كان سائداً في لبنان، فزجّتهم في السجن من دون أيّ مذكرات توقيف ولا تبريرات قانونية، لتصدر بعدها في حق المعتقلين قرارات قضائية، ومن بين الذين حوكموا آنذاك (بتهم مختلفة) المسؤول في “التيار الوطني الحر” اللواء نديم لطيف والمسؤول في “القوات اللبنانية” توفيق الهندي وحبيب يونس وغيرهم.

هذه الأحداث والتطورات كانت دافعاً قويّاً عند المسيحيين لأخذ زمام المبادرة “الوطنية”، بعيداً عن هواجس “الفدرلة”، مستفيدين من قرب صدور موقف عن مجلس الأمن يتعلّق بالوجود السوري في لبنان، مما أعاد إنعاش طروحاتهم السيادية، التي وجدوا فيها هذه المرة فرصة لا تعوّض لاستعادة وهج دورهم التاريخي.

ففي تلك المرحلة تشكّل لقاء “قرنة شهوان” من شخصيات وأحزاب سياسية معارضة للوجود السوري، بتوجيه من البطريرك نصر الله صفير، أعقبه بيان مجلس المطارنة الموارنة الذي هاجم استمرار الوجود السوري في لبنان، ودعا إلى انسحاب القوات السورية، إستناداً الى قرار مجلس الأمن رقم 520، بحيث أنّ البيان قفز فوق “إتفاق الطائف” و”معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق”.

بعدها ببضعة أعوام، وقع الانفجار المزلزل الذي أدى إلى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ونتجت من جرّائه تداعيات وأحداث كبرى، توّجت بانسحاب الجيش السوري نهائياً، وكليّاً من لبنان، عقب اندلاع “ثورة الأرز”، أعقب ذلك عودة الجنرال عون من منفاه، ثمّ إخراج الدكتور جعجع من السجن، فبدأت مرحلة جديدة من تاريخ لبنان السياسي.

فهل حفظ الزعيمان المارونيان، للرئيس الشهيد الذي دفع حياته ثمناً لإتفاق “الطائف” جميله، بأنّ دماءه أعادتهما الى المعادلة السياسية الداخلية، وبالتالي حفاظهما على”الطائف”، أم أنهما لا يزالان مسكونين بطروحاتهما القديمة المتجدّدة؟

(يتبع)

شارك المقال