الفديرالية حل أو انتحار؟ هل إعلانها ينتظر خارطة المنطقة؟ (5)

زياد سامي عيتاني

بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، الذي طوى مرحلة طويلة من الامساك بالقرار اللبناني، تعاقبت الأحداث والتطورات محليّاً وإقليميّاً، فأعادت لبنان مجدّداً ساحة للصراعات ولتصفيات الحسابات بين دول المنطقة.

ومن أبرز تلك الأحداث “إتفاق مار مخايل”، ثم حرب تموز، وخروج “حزب الله” منتشياً بـ “نصره الالهي”، التي ألحقت بلبنان خسائر فادحة في الأرواح والبنى التحتيّة وفي عجلته الاقتصاديّة، مما دفع الحزب إلى توظيف مفاعيل تلك الحرب داخلياً، للهيمنة على الدولة، ومؤسساتها الدستورية، وقرارها السياسي، فكان من نتائج ذلك اجتياحه بيروت وبعض الجبل الذي عرف بـ”غزوة 7 أيار”، التي أدت إلى إبرام “إتفاق الدوحة” بما انطوى عليه من خلل وطني وخرق جديد لاتفاق “الطائف”، ليقحم الحزب بعد ذلك لبنان في صراعات المنطقة، من خلال تدخّله العسكري في الحرب السورية إنقاذاً للنظام، تنفيذاً لأوامر الولي الفقيه في إيران، وتزداد الأوضاع اللبنانية تعقيداً وانقساماً، معطوفة على بداية عزل لبنان عربيّاً ودوليّاً، من جراء غياب القرار السيادي للدولة، بعدما أمسك به الحزب، في مقابل تنازل سيد العهد عنه لصالح حليفه، تحت مبررات مقاومة الارهاب، الذي تمّ تسهيل استقدامه لاستخدامه سياسياً (“لشيطنة” الطائفة السنية)، ومن ثمّ إخراجه بالحافلات المكيفة (!) وذلك في سياق إضعاف السّنة في كل من العراق وسوريا، لتهيئة الأرضية لتمدّد المشروع الفارسي – الايراني التوسعي في المنطقة، مسخّراً العصبية المذهبية (!) مما عمّق الجرح اللبناني سياسياً ووطنياً، عندما نما شعور عارم لدى اللبنانيين بفعل استبدال الهيمنة السورية بالهيمنة الإيرانية، من خلال ذراعه العسكرية في لبنان!

وقد حفلت تلك المرحلة بالتعطيل والفراغ الرئاسي والدستوري، وعرقلة أعمال الحكومات المتعاقبة في عهد الرئيس ميشال سليمان، وصولاً إلى فرض تسوية رئاسية أتت بالجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية.

لا داعي للتذكير بما اتصف به عهد الرئيس عون الذي بشّر “شعبه العظيم” بجهنم الموعودة، من خرق للدستور والكيديّة والنرجسية السياسية، التي جعلته طيلة سنواته في صراع مع مختلف الفرقاء السياسيين، مما تسبّب بكوارث ومآسٍ وويلات، على كل الصعد والمستويات، بلغت ذروتها، عندما أدت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي أوقع فيها لبنان، إلى انفجار الشارع سخطاً وغضباً، فيما عُرف بـ “ثورة 17 تشرين” عام 2019، والتي قوبلت من العهد وحليفه “حزب الله” بالتصدي لها أمنيّاً بشراسة مفرطة، واتهام الحراك وصرخة المواطنين بأنّها تدار من سفارات عربية وغربية، في إطار استهداف “خط المقاومة”!

وتفاعلاً مع الاحتجاجات الشعبية، وبعدما رفضت ورقة الاصلاح التي قدمها، أقدم الرئيس سعد الحريري على تقديم استقالة حكومته، وشكلت حكومة برئاسة حسان دياب، اعتبرت منذ ولادتها حكومة تحالف “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” بقيادة الرئيس عون.

وبدلاً من أن يقوم العهد بإجراء معالجات وإصلاحات بنيويّة جذريّة على الصعد السياسية والادارية والاقتصادية والمالية العامة، أمعن واسترسل في إدارة ظهره لها، مع الابقاء على الهدر في تنفيذ المشاريع التي تفاقم الأزمة، إرضاءً للصهر “رئيس الظل”.

وهذا النهج أدى إلى انهيار النظام المالي اللبناني برمته، واستتباعاً إنهيار القطاعات الاقتصادية الواحدة تلو الأخرى، وتحلل مؤسسات الدولة المركزية، وسقوط معظم اللبنانيين تحت خط الفقر، بفعل الأزمة المعيشية والحياتية التي لم يشهد لها لبنان مثيلاً، في وقت يشاهدون بأم العين نمو وإزدهار الاقتصاد الموازي الذي يديره الحزب، والقائم على التهريب والتبييض وتصدير “الكبتاغون”.

وليأتي بعد ذلك، الانفجار المزلزل الذي استهدف “نيترات الأمونيوم” في مرفأ بيروت، وتسبب بتدميره بالكامل وجميع المناطق المتاخمة له، فضلاً عن آلاف الضحايا من المواطنين، وقوبل بحالة مريبة من اللامبالاة، مع تمييع التحقيقات القضائية وإجهاضها، بحيث أنّ حيثيات الانفجار “المعلومة” ما زالت مجهولة وغامضة (!) على الرغم من كلّ المعطيات والدلائل التي لا لبس فيها عن الجهة المخزّنة واستخداماتها.

كل هذه التطورات “الدراماتيكية”، كشفت اهتراء وتحلّل الدولة المشتّتة ومؤسساتها، وولدت قناعة راسخة لدى السواد الأعظم من اللبنانيين باستحالة العيش في ظل ما وصل إليه لبنان من انهيار شامل، فقد معه مفهوم دولة المؤسسات والقانون ومقوماتها، مع اتساع عزلة لبنان العربية، بفعل تورّط “حزب الله” في حروب المنطقة، من سوريا إلى العراق، وغزة واليمن، وصولاً إلى تهديد أمن دول عربية، فضلاً عن استخدامه الدولة كغطاء لأجندته العسكرية والسياسية وحتى الثقافية، التي تخدم المصالح اللبنانية.

وقناعة استحالة العيش في ما آلت إليه أوضاع لبنان، بلغت ذروتها في الأوساط المسيحية اليائسة من إمكان إيجاد قواسم مشتركة بين مشروعي الدولة و”حزب الله”، مما أحيا لديها مجدداً فكرة أن يقرر كلّ مكوّن لبناني أسلوب الحكم، والعيش الذي يريده، على قاعدة النظام “الفديرالي”، لأنّه وبحسب نظرتها الى واقع الحال، فإنّ لبنان بصيغته الراهنة فقد مقومات العيش المشترك، والوحدة الوطنية، بفعل الشرخ العميق والجذري بينها وبين التوجّهات الفكرية والعقائدية التي يفرضها الحزب على اللبنانيين، لتغيير هوية لبنان ودوره ونظامه السياسي وعلاقاته الخارجية.

بغض النظر عما إذا كانت “الفديرالية” قابلة للحياة في بلد مثل لبنان، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه، هل “الفديرالية” مشروع حل للأزمة البنيوية التي يتخبط بها لبنان؟ أم أنها مشروع حرب جديدة، ستقضي عليه نهائياً؟

لا شكّ في أنّ لبنان الراهن المتمسك سياسيوه بالدولة المركزية، والرافضون لـ”الفدرلة”، يعيش واقعياً خطراً يتمثل في “فديرالية” الطوائف والمذاهب، التي هي “فديرالية” مقنّعة.

فهل باتت “الفديرالية” المرفوضة علناً، والقائمة نفسياً وسلوكياً ومطلبياً، من خلال الألاعيب السياسية المدمرة للدولة وللنظام المتهالكين والمتشتّتين، أمراً واقعاً لا رجوع عنه، تنتظر الخارطة الجيو – سياسية للمنطقة للاعلان عنها رسمياً؟

شارك المقال