الفرص الضائعة “القضية الفلسطينية” من (ألف) حسني الزعيم إلى (ياء) الممانعة

لؤي توفيق حسن

حسني الزعيم صاحب الانقلاب الأول في سوريا في 31 آذار 1949 كان رجلاً غريب الأطوار، ازدحمت فترة حكمه القصير بالكثير من المفارقات واللقطات المثيرة، ومنها هذه القصة: تظاهر طلاب جامعة دمشق وثانوية التجهيز الأولى – الوحيدة آنذاك – متجمهرين حول مقر الزعيم هاتفين “بدنا نحرر فلسطين”، والعديد من هؤلاء كان بين مناصر أو منتسب الى أحزاب سياسية مثل السوري القومي والبعثي والعربي الاشتراكي (أكرم الحوراني)، وغيرهم. استقبل الزعيم وفداً منهم وقال له: “تحرير فلسطين يلزمه رجال مدربون على القتال فهل أنتم راغبون كي نتولى المهمة؟”، فأبدوا رغبتهم بالايجاب وبحماس كبير. استدعى الزعيم شاحنات الجيش لنقل الطلاب إلى معسكر قطنا لهذا الغرض، وأمر الضابط المسؤول أن تسير القافلة ببطء مما يتيح القفز منها. وصلت القافلة إلى المعسكر وهي تُقل 3 من الشباب فقط!. لقد كشف تصرف الشباب مدى جديتهم، وبالتالي تربيتهم الحزبية، كما دلَّت مناورة الزعيم على طبيعته المخاتلة، وأن ما جاء في “البلاغ رقم 1” لانقلابه عن “بناء القوة لتحرير فلسطين” كان من باب الدجل السياسي، وهذا بعد أن عرفنا بأنه كان على علاقة باسرائيل بحسب مذكرات سفير أميركا في دمشق ستيفن ميد التي تتقاطع مع ما كشفه فيما بعد في مذكراته سامي جمعة أحد ضباط الأمن العسكري من أن الزعيم عرض على اسرائيل الصلح وتجنيس الفلسطينين وتفاصيل أخرى لا مجال لذكرها الآن. ولعل هذا المثال وهو واحد من عدة أمثلة يكشف أن قضية فلسطين كانت منذ أيامها الأولى مطية في لعبة السلطة في الداخل القطري أو على المستوى الاقليمي. وبالتالي كانت وما زالت تحمل وجهين، وجه للاستهلاك الشعبوي، بشعارات براقة، الرائج منها الآن “لبيك يا أقصى”، و”لا للتطبيع”!، فيما الوجه الداخلي مختلف تماماً ومحصور في مستويات قيادية وبأضيق الحلقات، وتحت عنوان “سري للغاية”!

خارج دائرة الضوء

لقد تفتحت أجيال على هذه الباطنية السياسية وحفرت في تلافيف مخها تشوهات جعلتها تقارب القضية الفلسطينية بعقلية خطابية، انما بعض النخب احترفها من باب “التقية”، فيما الحقيقة كانت دائماً خارج دائرة الضوء، ونضرب على هذا مثالين:

أول الأمثلة، ما كشف عنه النواب اللبنانيون الذين زاروا عواصم عربية يستمزجون رأي قادتها قُبيل توقيع اتفاق 17 أيار، وجميعهم أجمعوا على الترحيب بالاتفاق بوصفه “حلاً منطقياً للتخلص من الاحتلال”، كما ذكر النائب السابق بطرس حرب، واللافت ما نقله عن الرئيس صدام حسين: “نحن قصرنا بحق لبنان وتركناه وبالتالي ليس من حقنا أن نقول له ما يجب أن يفعله”. تراجع العرب فيما بعد مجاراةً منهم لرفض سوريا للاتفاقية آخذين كالعادة بأسلوب “التقية”!، كذلك النواب اللبنانيون الذين سبق لهم ووافقوا عليه في جلسة 14 حزيران 1984، عادوا وألغوه في جلسة 5 آذار 1985. تجدر الاشارة الى أن اتفاق 17 أيار الذي وصف بـ”العار” أعطى لبنان حقه في الحدود البحرية على أساس الخط 29 بما جعل نصف حقل “كاريش” من نصيب لبنان، فيما اتفاق ترسيم الحدود في زمن “الممانعة” حرم لبنان منه وجعله من نصيب اسرائيل!

ثاني الأمثلة، المفاوضات السورية – الاسرائيلة عام 1994 – 1995، وقد كشفت أموراً في غاية الأهمية تستحق أن تفرد لها مساحة خاصة. انما المهم الآن أن نذكر بأن تلك المفاوضات التي انخرط فيها الرئيس حافظ الأسد بجدية كانت تسير نحو التسوية، وخلالها جرى تجاوز عقبات في الغرف المغلقة وبرعاية أميركية أفصح عنها بيل كلينتون في مذكراته “حياتي”، وأشار إلى بعضها فاروق الشرع في كتابه “الرواية المفقودة”.

كانت التسوية قاب قوسين أو أدنى بالفعل، غير أنها توقفت مع تمسك الأسد ببضعة أمتار محاذية لساحل بحيرة طبريا. لكن هل يعقل أن تكون تلك الأمتار سبباً حال دون استعادة المحتل من هضبة الجولان والبالغ 1250 كيلومتراً مربعاً؟ لا شك في أن وراء الأكمة سبباً جوهرياً، وهو خشية الأسد أن ينعكس الأمر على توريث السلطة للابن، ولا سيما بعدما لمس تهيب العسكريين العلويين له “وحتى لا يقال بأن الصلح قد تم على يد رئيس علوي” كما نقل عن أحد كبارهم، وهذا في حسابات الأسد سيفقد النظام “شرعيته” بل ومبررات وجوده التي قامت على شعارات “التحرير” و”الصمود والتصدي” ورفض “التطبيع مع العدو”، ما سيجعل عملية التوريث بالتالي على “كف عفريت”.

لعل ما مرّ ذكره من الفرص الضائعة ينضم إلى سابقاتها، ويستحق أن نفرد لها مساحة خاصة؛ غير أنه يدعونا على الهامش الى التساؤل بحسرة: ماذا لو استعادت سوريا جولانها آنذاك – على الرغم مما قد ينطوي عليه الأمر من ضرائب سياسية لا بد من دفعها -؟ وهل كان مسار الأحداث في سوريا سيأخذ المنحى الذي أخذه فيما بعد؟ أم ترانا بحاجة إلى أكثر من “لواء اسكندرون” حتى نتعلم بأن استرجاع ما نخسره يصبح عسيراً استرداده بعد مضي مدة طويلة عليه، بل ويذوب الحق فيه مع عالم تحكمه شرعة القوة؟ للتذكار مضت الآن 55 سنة ونيف على احتلال الجولان… استولدت من بعدها الحوادث أكثر من جولان محتل.

شارك المقال