نصر الله بعد “جرعة” عبداللهيان: رئيس ضد أميركا أو لا رئيس

عبدالوهاب بدرخان

أفسدت إيران و”حزبها” الرئاسة الأولى وهيبتها الدستورية، مستخدمَين أغبياء “التيار العوني”، ومعتمدَين عليهم أيضاً في الإساءة الى دور الرئاسة الثالثة (الحكومة) كما يحدّده الدستور، وقبل ذلك استضعفا حركة “أمل” وفرضا على الرئاسة الثانية دوراً مخاتلاً في إدارة المجلس النيابي خصوصاً في مراحل “الشغور الرئاسي”.

معالم هذا الافساد واضحة حالياً: لا رئيس جديداً إلا بمواصفات حسن نصر الله التي تزداد استقواءً وفظاظةً، لا انعقاد لمجلس الوزراء إلا بإجازة خاصة من “حزب إيران”، ولا مجال لممارسة المجلس النيابي واجبه الرئيسي (انتخاب الرئيس) إلا إذا خضعت الكتل البرلمانية كافةً لإرادة “الحزب”. وفي السياق جرت مصادرة السلطة القضائية ومنعها من بتّ أي قضية مطروحة عليها، بدءاً بانفجار مرفأ بيروت وليس انتهاءً بحالات الفساد المالي المعروفة… كلّ ذلك جعل كثيرين يقولون إن ثمة أزمة نظام أو إساءة تطبيق للنظام، لكن هذا التوصيف كان يمكن أن ينطبق على عقود وعهود غابرة مرّ بها لبنان وكانت ذروتها تحت نظام الوصاية/ الاحتلال الأسدي/ السوري، أما الواقع الممتد منذ 2005 الى الآن فهو عيّنة، مجرّد عيّنة، من الحكم الإيراني المأزوم في إيران نفسها والمراد نفخه وتخصيبه في لبنان.

بمقدار ما أن الخلاف بين “حزب إيران” و”التيار العوني” مهمٌّ لطرفيه بمقدار ما أنه سخيف الدلالات السياسية. فـ “الحزب” نجح في اللعب بـ “التيار” لتحقيق الكثير من أهدافه، أما “التيار” فانكشف حين فشل في إدارة الدولة ثم في اثبات نديّته مع “الحزب” في ميزان القوى الداخلي، وأخيراً في “أحقيّته” في مواصلة الحُكم من خارج الحُكم. وكما يحصل في الخصومة بين عصابتين فإن سقوط احداها يصيب الأخرى، إذ انكشف “الحزب” بدوره حين فقد الغالبية في مجلس النواب وانكشف أكثر حين تبيّن أن ليس لديه مرشّح رئاسي يملك مقوّمات أخرى غير أنه “في خط المقاومة”، ولا يقلّ تمسّك “الحزب” به (ولو مرشّحاً سرّياً) حماقةً وعبثيةً عن اعتقاد المرشّح نفسه أن تبعيته للنظامين السوري والإيراني تشكّل نقطة قوة له في خوضه السباق الرئاسي.

في هذا المجال يبدو تصعيد نصر الله نبرة مطالبته بـ “رئيس ضد أميركا” مرتبطاً بجرعة التعنت والاستقواء التي لقّحه بها زائره الإيراني حسين أمير عبداللهيان، كما يبدو تعبيراً عن يأسٍ نهائي من تسوية رئاسية خارجية باتت مستبعدة مع إيران و”حزبها”، وبالتالي عاد نصر الله – نفسيّاً وسياسياً – الى استحضار أجواء معركة الرئاسة 2016 عندما كان لديه مرشح قوي اسمه ميشال عون، لكن الظروف تغيّرت داخلياً وخارجياً. أكثر ما يقلق “الحزب” أن يرى الآفاق والأبواب مسدودة أمامه، وأكثر ما يزعجه أن يجد نفسه أمام واقع مجتمعي وشعبي حتى سياسي مضاد له لا يستطيع اختراقه ولا يريد الاعتراف به. فمثل هذه الحال تستدعي، بحسب ايديولوجية “الحزب” وعقليته السياسية، العودة الى الاغتيالات والعنف وافتعال فتن داخلية لإزالة العقبات و”إقناع” أطراف داخلية بالرضوخ لإملاءاته، وما قد يشجّعه على ذلك أن القوى الدولية منشغلة بأزمات أكبر وأكثر أهمية من لبنان.

لا بدّ أن اعتصام نائبين أو أكثر في مبنى مجلس النواب، تأميناً لـ”استمرارية” (ممنوعة) لجلسة انتخاب الرئيس، يشكّل تحدّياً لنهجٍ تبنّاه “الثنائي الشيعي”، وضغطاً على رئيس المجلس الذي قطع الكهرباء عن المعتصمين والمتضامنين معهم. وبمعزل عمّا إذا كانت المبادرة ستحرّك الجمود في مسرحية تعطيل الانتخاب أم لا، فإنها تحمل دلالات على أن النواب التغييريين يتحسّسون معاناة اللبنانيين “وسط غياب تامٍ للعدالة وأبسط حقوق العيش” و”حقّنا الدستوري وواجبنا الذي يملي علينا انتخاب رئيس” (نجاة عون صليبا)، كما تتضمن رفضاً لـ “النهج التدميري للديموقراطية والوطن” وللبقاء “خارج المسؤولية الملقاة علينا” وكذلك لـ “سقوط الديموقراطية لصالح تسويات ومحاصصات تغلّف بإطار التوافق، بينما هو في الحقيقة تقاسم السياسيين للسلطة” (ملحم خلف). إذا قدّر لهذا الاعتصام أن يصنع حالاً برلمانية يمكن الرهان أو البناء عليها، حتى من دون اعتصام، فإن “حزب إيران” سيواجهه بالشراسة والوحشية اللتين واجه بهما “انتفاضة 17 تشرين”، فليس وارداً عنده تمرير أي تمرّد على املاءاته.

بالتزامن مع هذا الاعتصام اختار زعيم هذا “الحزب” تخصيص اطلالته الأخيرة لتأكيد أن “الشغور الرئاسي” مرشح لأن يطول أكثر مما توقّع المتفائلون حتى الآن، وبدل أن يخاطب المعتصمين فضّل أن يردّ على رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي اتهم “الحزب” بـ “السلبطة على اللبنانيين” وأشار الى خطط عمل إذا استمرّ “الشغور” والتعطيل، وإذ لم ينفِ نصر االله “السلبطة” فإنه أكّدها وأكّد الإصرار عليها. أما بالنسبة الى السنوات الست المقبلة فإن نصر الله حدّد “نوع الماروني” المقبول عنده، مجدّداً المطالبة برئيس “لا يطعن المقاومة في ظهرها” ورئيس “لديه ركب، شجاع ومستعد للتضحية، ولا يطير ويصبح في البحر المتوسّط إذا نفخ عليه الأميركيون”. أما الشجاعة والتضحية المطلوبتان فهما ما أقدم عليه ميشال عون بدفع لبنان “الى جهنم”، والتفاني في خدمة الاحتلال الإيراني وطعن لبنان – لا “المقاومة” – في الظهر.

بعد انكشاف الرئاسة بافتعال شغورها، والحكومة بخضوعها الكامل لإرادة المحتلّ الإيراني، انكشف أيضاً البرلمان المعطّل والمعجّز بسبب تشرذم صفوفه وتياراته السياسية. وبما أن هذا الوضع غير قابل للتبدّل فقد أضيف البرلمان نفسه الى مجموعة الأزمات اللبنانية المتداخلة والمتراكمة والمستعصية، خصوصاً بعدما استخدمت رئاسته المادة الدستورية (“المادة رجلها من الشباك”!) لإدارة تعطيل المجلس بما يخدم مصلحة الحُكم الموازي لـ “حزب إيران” وليس خدمة لمصلحة البلد.

كان المجلس النيابي السابق تحت سيطرة غالبية هذا “الحزب”، وقد أسقط نفسه بنفسه مرّتين، أولاً حين أدار ظهره لـ “انتفاضة 17 تشرين” ورضخ لإرادة المرشد الأعلى المحلي، وثانياً حين فشل في تشريع أي قانون يمكن أن يساهم في معالجة الأزمة المالية أو أيٍّ من جوانب الأزمة الشاملة. أما المجلس المنتخب حديثاً فحافظ على حمولة وازنة من تمثيل “منظومة السلطة” ومن القطيع الخاضع الذي يصعب الوثوق بأيٍّ من أفراده.

سقط المجلس الجديد سريعاً في اختبار الرئاسة، وأصبحت الدولة كما أصبح الشعب في حاجة الى انتخابات أخرى ومجلس آخر، لكن هل يجرؤ المجلس على التصويت على حلّ نفسه كما سبق أن فعل للتمديد لنفسه؟ لا بدّ من طرح مسألة إعادة اجراء الانتخابات علّها تأتي بتركيبة مختلفة يسهل معها انتخاب رئيس من دون تأخير، وليكن عندئذ ما يكون، وليختر الناخبون مَن يريدون ما داموا يعرفون مسبقاً أن برلماناً يسيطر عليه أتباع النظامين الإيراني والسوري يعني استمراراً للأزمة، وأن رئيساً يعيّنه هؤلاء سيكون امتداداً لـ “العهد” العوني البائد، مهما حاولوا تصوير الأمر على أنه خلاف ذلك. سيقول الخارج عندئذٍ إن هذه “إرادة اللبنانيين”، لكنه لن يتعامل معها أو مع ما ينتج عنها باعتباره نموذجاً لـ “الشرعية” الانتخابية، فهو مدرك أنها، بحكم القانون الحالي للانتخاب، إرادة مزوّرة.

شارك المقال