تفجير مرفئها دمّر قضاءها… بيروت لم تعد أم الشرائع!

زياد سامي عيتاني

يعيش القضاء اللبناني حالة غير مسبوقة من التصدع والتفكك، تنذر بإنهياره كاملاً، ليلحق بكل أجهزة الدولة واداراتها المحتضرة والمتحللة، من جراء الصراع القائم بين أركانه، على خلفية التحقيق بجريمة تفجير مرفأ بيروت المزلزل، الذي تحول إلى حرب لتصفية حسابات سياسية بواسطته، من الطغمة الحاكمة، التي سيّسته ووظفته خدمة لمصالحها وأنانياتها الضيقة، لتغطية فسادها ونهبها للمال العام، وتسببها بإنهيار الدولة وبنيتها الإقتصادية والإجتماعية.

إن ما بلغه القضاء اللبناني من إنحدار وإنهيار، لم يشهده في تاريخه، حتى في زمن الحرب، بعدما فتك به الفساد المستشري، الذي أفقده عراقته ونزاهته، لتفتقد بيروت معه، واحدة من أهم ألقابها التاريخية التي طالما تغنت وافتخرت بها، “أم الشرائع”.

فخلال التاريخ الروماني، الحافل بالأحداث المفصلية المؤسِّسة للتشريع الخلاّق، تميزت بيروت بموقعها المميّز وبدورها الفاعل وبقوّة، ضمن ورشة صناعة القانون الروماني، الذي أصبح فيما بعد، الجدّ الشرعي لتشريعات معظم دول العالم المعاصر، ومنها تشريعاتنا اللبنانية الحاضرة.

وقد جعل هؤلاء الفقهاء من القانون، علماً قائماً بذاته، وفرّقوا بينه وبين قواعد الدين والفلسفة والأخلاق، ووضعوا له التقسيمات والتفريعات، وإستنبطوا من الحلول الفردية القواعد العامة.

جدير ذكره في هذا السياق، أنّ نخبة مرموقة من أولئك الفقهاء كانت لبنانية، أو ممّن إتخذت بيروت مقرّاً لإنتاجها الفكري، أمثال الفقيه بابنيان (الذي لُقّب بأمير الفقهاء)، وبولس، وأولبيان، وجوليان، وبومبونيوس، وسكافولا، ومرسليوس، وغايوس وسواهم…

هذه الحركة التشريعية الواسعة، والفقه القانوني المزدهر، إستوجبا إنشاء المدارس الحقوقية لتدريسهما فيها، فقامت مدارس الحقوق الرومانية في المدن الرئيسة للإمبراطورية، منها: مدرسة روما، ومدرسة القسطنطينية، ومدرسة الاسكندرية، ومدرسة القيصرية في فلسطين، ومدرسة أثينا، ومدرسة بيريت (Beryte) في بيروت، التي كانت أهمّ كلّ تلك المدارس وأوسعها شهرة، حتى دُعيت بحق “أم الشرائع” و”الأم المرضعة للحقوق”، ووُصف أساتذتها بـ “العلماء العالميين”.

المرجّح أن مدرسة الحقوق الرومانية في بيروت، قد تأسّست في أواخر القرن الثاني الميلادي، في حدود العام (196 م)، وإستمرّت قائمة ومزدهرة حتى العام (551 م)، حين ضرب مدينة بيروت زلزال هائل، تبعه مدّ من البحر، وحرائق في الداخل، حيث إنشقّت الأرض وإبتلعت الأبنية، بما في ذلك مدرسة “بيريت” العظيمة وموجوداتها وكنوزها القانونية الثمينة.

هكذا، أُسدل الستار على أهمّ صرح أكاديمي في تاريخ القوانين، بعد إشعاع إمتدّ وهجه بعيداً في الزمان.

نشير إلى أن مدرسة “بيريت” كانت تشغل المساحة الممتدّة من منطقة التياترو الكبير وكنيسة مار جرجس المارونية و”سوق السمك في وسط المدينة، حتى مدرسة “الحكمة” الحالية.

من الضروري في سياق هذا العرض التأريخي عن مدرسة الحقوق في بيروت لفت التظر الى أنها لم تتراجع إطلاقاً نتيجة التقهقر الذي أصاب روما، بل على العكس، إزدهر تعليم الحقوق في مدرستها، وبلغ أوجه.

فقد عرفت كيف تطوّر نفسها، وتبعد عنها الأخطار التي كان يمكن أن تهدّدها، فابتعدت نهائياً عن روما، وإقتربت من القسطنطينية، وظلّ أساتذتها الكبار يدرّسون القانون الروماني، وعرفوا كيف يزاوجون بينه وبين الفكر اليوناني.

وتُوّجت بالمجد لدى إشراك أساتذتها في إعداد وصياغة تقنيات جوستنيان، التي تدين لها اليوم تشريعات معظم بلدان العالم المتمدّن.

أخيراً، لا بدّ لكلّ مشتغل في حقل التشريع، وفي مجال تاريخ القوانين، من الإقرار بأنّ تاريخ مدرسة بيروت الحقوقية يشهد على نجاحها المؤكّد بشهادات عديدة وموثوقة ومتطابقة، وعلى إستمرار هذا النجاح منذ تأسيسها في أواخر القرن الثاني الميلادي وحتى تاريخ تدميرها بالزلزال عام 551. وهذا النجاح كان مثالاً فريداً في تاريخ جامعات الزمن القديم، ذلك أنّ الأباطرة قد إتخذوا منها مركزاً لإيداع القوانين الرومانية، لأنّ القانون الروماني كان يدرّس، فيها بروحية روما.

شارك المقال