مسامير في جسد لبنان

محمد علي فرحات

لاحظ صديق لبناني أن “همروجة” الأحزاب والزعامات في لبنان اليوم هي وهم يغطي الحقيقة كما يحجب الدخان الأسود مشهد الطبيعة وألوانها.

ويبدو أن الزمن المديد للتراجع السياسي والثقافي والاقتصادي مقروناً بأزمات متلاحقة عصية على الحل، قد استهلك قدرة القيادات اللبنانية وفعاليتها، وهي تتحايل على واقعها المزري بتأكيد حضورها اليومي في الاعلام واصرارها على توزيع أوهام الوطنية والاخلاص للشعب والنضال من أجل مستقبل أفضل.

كلمات وشعارات تتكرر على مسرح لبنان الفاشل، وسندها الوحيد هو عدم وجود بديل لها، هي التي أتقن مطلقوها تجفيف عقول الأجيال منذ ثلاثين عاماً وأكثر، فبقيت وحدها في الصورة تعرض عبقرية الزعيم وشروحات الحاشية على أقواله.

انها الصورة المعبّرة عن الاستبداد: القائد وأزلامه وحدهم يمثلون المجتمع وباقي المواطنين مجرد كائنات صامتة خلف ستائر سميكة.

وخلف الستائر هذه غالبية الشعب اللبناني في صورة أفراد صامتين لا في جماعات صغيرة تحاول أن تتوسع في مسرح الصراع البارد الذي يتهيأ لحرب ساخنة. الغالبية هذه أفراد تقمعهم احزاب وزعامات ولدت أو تبلورت في الحرب الأهلية المتعددة الحلقات، فأتقنت احتلال المشهد ومنع وجود بدائل لا في شخصيات مسموعة الكلمة ولا في هيئات سياسية واقتصادية وثقافية مواكبة لمتغيرات الواقع.

“همروجة” الأحزاب والزعامات التي تحتل المشهد العام، تجعلنا، للوهلة الأولى، نتخوف من تجديدها الحرب الأهلية اللبنانية في صورتها الساخنة. لكن، ما يدفعنا مجدداً الى الاطمئنان، أن الزعامات المهيمنة اليوم تتقن الضجيج وتعجز عن الفعل، وما تنجزه حقاً هو اعادة ضخّ العداوات الطائفية لجمع أكبر عدد ممكن من العبيد الجدد، لكن اللبنانيين في معظمهم ليسوا أغبياء ليجددوا حرباً أهلية أحرقتهم وحطمت وطنهم. أما الدول المؤثرة في الاجتماع اللبناني المرتبك فلا ترغب أو أنها تعجز لأسباب ذاتية وموضوعية عن تجديد حرب عبثية قد تغير حدود النفوذ لكنها لا تلغي وجود النفوذ نفسه. يكفيها كلها أن لبنان رهينتها حتى تتضح الصورة الجديدة للمشرق العربي دولاً ومجتمعات، خصوصاً في نوع العلاقة بين اسرائيل الجديدة في صورتها الداعشية على الطريقة اليهودية وجاراتها العربيات شمالاً وشرقاً، تلك التي يخترقها صراع كبار العالم من روس وصينيين وأوروبيين وأميركيين كما تؤثر فيها جارتاها الطامعتان الى مزيد من النفوذ، نعني تركيا وايران.

في هذا الخلل داخل لبنان ومحيطه تتفاقم الأزمات المعيشية للبنانيين المقيمين ولا تحد منها سوى مساعدات غير كافية من دول قريبة وبعيدة ومن مؤسسات تابعة للأمم المتحدة أو ما يشبهها، فضلاً عن تقديمات مهاجرين لبنانيين لمن بقي من أهلهم في الوطن. كل ذلك يترافق مع الانهيارات المتسارعة في الادارات الرسمية والقطاع الخاص.

ومن مسببات الخلل تفاقم أعداد النازحين السوريين الى لبنان بما يفوق ثلث السكان في مرحلة انهيار أوصل الى حافة الجوع. وهناك التأثير السياسي والثقافي لاندراج ايران في الدول ذات الحضور في السياسة والاجتماع والاقتصاد في لبنان. وهذا العضو يفتقد الخبرة والمرونة كما سائر الأعضاء ويعتنق ايديولوجية متشددة تواجهها معظم دول العالم بالمعارضة أو بالعداء، خصوصاً الدول العربية التي ينتمي اليها لبنان.

ولا يغيب وضع العداء والتسيب عن حدود لبنان البرية، ففي الجنوب خط الصراع مع اسرائيل متوتر كالخيط المشدود لا تدري متى ينقطع، ما يؤثر سلباً في حياة الناس اليومية وأولويات تفكيرهم ويحدّ، بطبيعة الحال، من اختياراتهم السياسية، فلا تمثيل نيابياً، مثلاً، لشيعة الجنوب ممن هم خارج الثنائي (“أمل” – “حزب الله”) سواء كانوا مستقلين أو معارضين له. وفي خط البقاع والشمال المحاذي لسوريا، فان معظم الحدود بلا ضوابط، فيما يخترق التأثير السياسي للحكم السوري الجماعات اللبنانية في ذلك الخط.

شارك المقال