قاضي “القضاة”… شنق حالو!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

بينما كان اللبنانيون ينتظرون عواصف الطبيعة التي تأخرت قليلاً هذا العام، إذ بهم يعيشون عواصف من نوع آخر، إستهلكت الأسبوع الماضي بأكمله الذي كان بدأ بـ “عاصفة” القاضي طارق البيطار التي عاد بموجبها الى ممارسة مهامه بإجتهاد قانوني مثير للجدل، مصحوباً بإدعاءات جديدة على ثلة من “كبار القوم”، من بينهم المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، كذلك – وهنا الغرابة – المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات بما ومن يمثلون. عويدات رد على العاصفة بـ “إعصار” كاد أن يقتلع الأخضر واليابس، وحوَّل “العدلية” إلى ساحة صراع أشبه بالـ “عصفورية”، إختلط فيها حابل السياسة بنابل القضاء، فأخرج الموقوفين في قضية تفجير مرفأ بيروت، من دون مسوّغ أو حيثيات قانونية قوية ومقنعة، اللهم إلا حرب النكايات، ملقياً بأحدهم خارج الحدود اللبنانية على الرغم من قرار منع السفر عن المفرج عنهم، في عملية ملتوية لم تتضح معالمها بعد، قيل – والعهدة على الراوي – أنها كانت مدبرة بإشراف السفارة الأميركية، حيث لعب “أصبع” السفيرة دوروثي شيا الذي رفعته في وجه أهل السلطة في لبنان، الدور الحاسم في هذه العملية في تكرار لعملية “تهريب” العميل عامر فاخوري، في بلد يصح فيه القول انه “متل ما بدو الفاخوري بيركب إذن الجرة فيه”، ولنغدو – كما قال صديقي الظريف على سبيل النكتة – في بلاد ما بين “الأصبعين”، أصبع السيد حسن نصر الله من جهة، وأصبع السفيرة الأميركية من جهة أخرى .

هذه الادعاءات التي يبدو وكأنها جاءت على قاعدة 6 و6 مكرر، من حيث أنها طالت رموز هذه السلطة بأقانيمها الطائفية الثلاثة، على إعتبار أنهم يمثلون – شئنا أم أبينا – من عيَّنهم في هذه المراكز التي لا يمكن الوصول إليها بالكفاءة فقط في بلد كلبنان بل كذلك بالدعم السياسي، ما يجعل منها بالضرورة مراكز سياسية أكثر منها أمنية وقضائية فقط، لذلك كان أكثر من طبيعي أن تثير كل هذه الضجة والتساؤل عن دوافعها بحيث بدت وكأنها تطبيق لشعار “كلن يعني كلن”، خصوصاً أنها جاءت مباشرة بعد مغادرة الوفود القضائية الأوروبية لبنان، وبعد إجتماع القاضي البيطار مع وفد قضائي فرنسي يتابع هذا الملف. كما أنها جاءت في الشكل لتذكر اللبنانيين ببدايات الجنرال ميشال عون السياسية في العام 1988، بحيث بدا القاضي طارق البيطار بصورة “جنرال” ولكن بلباس قاضٍ، وبإدعاءات توحي للرأي العام المحتقن واليائس من هذه الطبقة السياسية، بأنه قادم على متن قضية إنسانية ووطنية مقدسة، ليقتلع الفساد من جذوره تماماً كما كان الوضع عام 1988. لا نقول هذا تشكيكاً بنوايا القاضي البيطار الذي بلا شك له من الصفات الحميدة الكثير، ولا تأييداً للمدعى عليهم ومَن وراءهم، ولا إنتصاراً للسلطة الحاكمة، فنحن أبعد ما نكون عن محاباة هذه “العصابة”، ولكن التطورات المتلاحقة في بلد كلبنان كل شيء فيه مسيَّس، وحيث لا يوجد سلطات مستقلة وإرادة وطنية جامعة، وبلد مفتوح على مصراعيه أمام كل التدخلات الأجنبية القريبة منها والبعيدة، تجعل من أي تحرك “غير عادي” كتحركات القاضي البيطار الجريئة بلا شك والمبررة في جانب منها من وجهة نظري، نظراً الى التعقيدات والتعطيل المتعمد والمفتعل الذي مارسته الأطراف السياسية لهذا الملف الدقيق، تجعل منها مدعاة للشك والتشكيك خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها البلد، والتي يبدو أن الحل الوحيد لها هو اللجوء إلى التحقيق الدولي، مع قناعتنا التامة بأن المصالح الدولية قد تلعب دورها أيضاً في الملف، ولا نقول عن طريق تزوير الوقائع، ولكن قد يكون عن طريق إخفاء بعض الحقائق التي قد تمس بالأمن والسلم في المنطقة كلها، لأن قضية تفجير المرفأ لا يمكن أن تكون قضية محلية خالصة، أو كما يحاول تصويرها البعض بأنها نتيجة أخطاء بشرية، وهو ما يجعل منها قضية متفجرة تتداخل فيها عوامل عدة، لا تقل أهمية عن عملية إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قد تطيح إذا ما وصلت إلى خواتيمها بالسلم الأهلي وربما بالسلم والأمن الاقليميين.

المهم أنه وكما في معارك السياسيين، كذلك في معارك القضاة – وهي سياسية بلبوس قضائي على أية حال – الضحية كانت الشعب والمؤسسات، الشعب الذي واصلت عملته إنهيارها جراء هذه المعركة “الدونكيشوتية”، فوصل سعر صرف الدولار حد الـ 60 ألف ليرة، والمؤسسات خصوصاً تلك التي عادةً ما تشكِّل خط دفاع أخير عن الأوطان، ألا وهي المؤسسة القضائية والمؤسسة العسكرية التي ترك العهد السابق “ودائعه” في كل منهما، ما أسهم في زيادة البلبلة الحاصلة سواء في القضاء وما حصل في مكتب الوزير، أو المؤسسة العسكرية التي نالها هي الأخرى نصيب من البلبلة نتيجة الخلاف بين وزير الدفاع “الوديعة” وبين قائد الجيش، بحجة ظاهرية هي تجاوز الصلاحيات وكأن قائد الجيش جديد على المنصب، بينما الحقيقة أن الخلاف هو على خلفية تصدر إسم قائد الجيش سباق الرئاسة، وهو ما تأكد عندما فشلت محاولات الوزير – الوكيل، ليظهر “المرشد” الأصيل جبران باسيل في هجوم كاسح على قائد الجيش مع إتهامات طالت ذمته المالية، عَكَسَ بتوتره الشديد الشعور بأن الرياح تجري بما لا تشتهي سفنه، وفي “عصفورية” جديدة تمثلت بمعاقب دولياً بتهمة الفساد يتهم قائد الجيش بالفساد، كما حصل في القضاء عندما طلب قاضٍ مدعى عليه من مدير عام مدعى عليه هو الآخر، أن يمنع القاضي المدعي عليهما من السفر، ما ينطبق عليه المثل الشعبي القائل “قاضي الولاد شنق حالو”، ليصبح في أيامنا هذه وللأسف “قاضي القضاة شنق حالو”، وكم في لبنان من المضحكات – المبكيات.

شارك المقال