14 شباط… “جريمة جارية” بحق لبنان، البداية… رفيق الحريري – الرمز شهيداً! (1)

ياسين شبلي
ياسين شبلي

أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى الـ 18 لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005 والوطن في أسوأ حال، حيث لا يزال يعاني من تداعيات هذه الجريمة التي باتت “جريمة جارية” بحق لبنان الوطن والشعب والمؤسسات حتى اليوم، والتي أعادته منذ ذلك اليوم إلى مربَّع الأزمات والحروب التي كان قد غادرها مدة 15 عاماً، أي منذ العام 1990 تاريخ إنهاء تمرد الجنرال ميشال عون على الشرعية المنبثقة من إتفاق الطائف، الذي أوقف الحرب الأهلية التي دامت أيضاً 15 عاماً، وكانت قد بدأت في ظروف إقليمية ودولية معقَّدة. إقليمياً جاءت بعد إنتهاء حرب تشرين 1973 بين العرب وإسرائيل وبداية إتفاقيات فك الاشتباك بينها وبين كل من مصر وسوريا، التي ولَّدَت إشتباكاً بين العرب أنفسهم ما بين معسكر مؤيد لمحادثات سلام مع إسرائيل بقيادة مصر، وآخر يدعو الى “الصمود والتصدي” بقيادة سوريا. كذلك دولياً كانت الحرب الباردة على أشدّها، خصوصاً بعد حرب فيتنام و”الانتصار” بالنقاط الذي أحرزته دول المعسكر الاشتراكي يومها بقيادة الاتحاد السوفياتي، على دول العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. في هذه الأجواء إنفجرت الحرب بداية على شكل تظاهرات لصيادي الأسماك في صيدا ضد السلطة التي استخدمت الرصاص ضد المتظاهرين فأصيب النائب والزعيم الشعبي معروف سعد وما لبث أن استشهد متأثراً بجروحه، ومن ثم بإحتكاكات بين أطراف اليمين اللبناني من جهة وقوات المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى، على خلفية الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، ما لبثت أن تطورت إلى إطلاق نار في عين الرمانة، وبعدها إلى مجزرة البوسطة الشهيرة في 13 نيسان 1975، لتفلت الأمور من عقالها فيأخذ اليسار اللبناني جانب المقاومة الفلسطينية وتبدأ الحرب فعلياً، والتي سرعان ما تحولت إلى حرب طائفية وذبح على الهوية فانقسم البلد إلى منطقتين شرقية وغربية، ما سمح للقوى الاقليمية والدولية بأن تتدخل أكثر وبصورة صريحة، بحيث بات لبنان صورة مصغرة ومعبّرة عن واقع الصراع الاقليمي والدولي، فكان أن شهد بعدها الكثير من الحروب بعدما تحوَّل ساحة لتصفية الحسابات الاقليمية والدولية.

وكما دخل لبنان الحرب على وقع الصراع الاقليمي والدولي، كذلك خرج منها على وقع إنتهاء الحرب الباردة دولياً بإنهيار الاتحاد السوفياتي، وكذلك إقليمياً، بدايةً على وقع الهزيمة الايرانية في حربها مع العراق عام 1988 وبروز الدور العراقي في المنطقة، الأمر الذي شكل ضغطاً على النظام السوري للقبول باتفاق الطائف على مضض، وذلك بهدف “القوطبة” على النظام العراقي الذي كان قد بدأ يدعم ميشال عون في حروبه الداخلية، ولاحقاً على وقع الغزو العراقي للكويت، الذي كان سبباً في وضع حد لتمرد ميشال عون على الشرعية، عبر السماح للقوات السورية بالتدخل ضده، مقابل دخولها في التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة لتحرير الكويت. إنتهت حرب تحرير الكويت بهزيمة قوات النظام العراقي وخروجها منها مدمرة وبطريقة مهينة، بحيث بات النظام بعدها محاصراً داخل بلده مهيض الجناح قليل الحيلة فاقداً دوره الاقليمي، ما سمح للولايات المتحدة بإطلاق عملية مدريد للسلام بين العرب وإسرائيل من دون مشكلات تذكر، في ظل إنهيار النظام العربي وتشظيه جراء الخلاف حول الغزو العراقي للكويت وتبعاته.

بدأت مباحثات السلام في المنطقة ما أعطى جرعة أمل وفسحة سلام للبنان لاستعادة عافيته، خصوصاً مع تسلم رفيق الحريري رئاسة الحكومة أواخر العام 1992، وإنطلاق عملية إعادة الاعمار التي لم تكن سهلة في ظل تغول أمراء الحرب على الدولة والسلطة بدعم من سلطة الوصاية السورية، التي لم تكن في جزء منها على الأقل – ولنقل أنه الجزء الراديكالي العلوي في النظام – ترتاح للتعامل مع رفيق الحريري، وترى فيه مشروع زعيم سني كبير في لبنان والمنطقة وهو ما يناقض مشروعها في كل من سوريا ولبنان، لا سيما بعد نجاح مشروعه لاعادة الاعمار – قبل أن يتوقف لاحقاً مع وصول إميل لحود الى الرئاسة – ونجاحه في نسج علاقات سياسية متنوعة داخلياً ما طوَّبه زعيماً شعبياً ورمزاً للإعتدال والانفتاح وجسراً للتواصل بين اللبنانيين بعضهم البعض، وبينهم وبين محيطهم العربي والعالم. في العام 1998 ومع فشل عملية السلام الشامل في المنطقة والتوجه إلى الاتفاقيات المنفردة كإتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين، ووادي عربة مع الأردن، لم يبقَ في ميدان الصراع سوى سوريا ولبنان الذي كان جنوبه لا يزال تحت الاحتلال الصهيوني من جهة، والواقع سياسياً تحت الوصاية السورية بإسم وحدة المصير والمسار من جهة ثانية. في هذه الأجواء انتخب إميل لحود رئيساً للجمهورية بدعم سوري قوي، وكان إنتخابه ينذر ببداية مواجهة مع الرئيس رفيق الحريري ربطاً بالتطورات والتصعيد الاقليمي وهكذا كان. ترك الرئيس رفيق الحريري الحكم بسبب خلافه مع إميل لحود، ليتوقف بذلك مشروع الاعمار ويُستبدَل بمشروع محاربة الحريري و”النكد السياسي”، الذي إستمر وبشراسة أكبر بعد عودته إلى السلطة مسلحاً بدعم شعبي كبير تمثَّل باكتساحه الانتخابات النيابية خصوصاً في بيروت.

جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر في الولايات المتحدة، لتطلق شرارة “الحرب على الإرهاب”، بغطاء فكري وإيديولوجي بعنوان “حرب الحضارات” التي أطلقها المحافظون الجدد، وكانت تعني من وجهة نظرهم الحرب على “الإسلام” بأكثريته السنية بوجه خاص، باعتباره منبع الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة، وهو ما استغلته بعض الأقليات الدينية في المنطقة وعلى رأسها إيران التي تعتمد النظام “الإسلامي” الشيعي للحكم، لتعمل على إطلاق مفهوم “حلف الأقليات” وتنفيذ مخططاتها المؤجلة وهو ما شكل رافداً للحملة الأميركية، بداية في أفغانستان حيث كان نظام “طالبان” يشكل قلقاً للنظام الإيراني، ولاحقاً في العراق حيث نظام صدام حسين الذي لم تنسَ له إيران هزيمته لها، ومنعه إياها من التمدد والوصول إلى شواطئ المتوسط.

مع بدء “حرب الحضارات” تقاطعت مصالح كل من أميركا وإيران، التي كانت قد بدأت تستعيد توازنها بعد “البيات” الموقت الذي فرضته عليها هزيمتها أمام العراق وكذلك التغييرات الدولية بداية تسعينيات القرن الماضي، خصوصاً مع الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، الذي صبَّ في مصلحتها كداعم للمقاومة، بالاضافة إلى غياب “الثعلب” حافظ الأسد عن الساحتين السورية واللبنانية بوفاته ومجيء وريثه بشار، الذي لا يملك بالتأكيد قوة والده وخبرته وحنكته، ما جعل منه لقمة سائغة للنظام الايراني ومخططاته في كل من سوريا ولبنان، تحديداً مع إنطلاق الدعوات في لبنان الى الإنسحاب السوري بعد الانسحاب الصهيوني من الجنوب وذلك تنفيذاً لبنود إتفاق الطائف، ترافق ذلك مع حصار ياسر عرفات في رام الله وزيادة الضغط على النظام العراقي والتهديد بإجتياح العراق بدعوى إمتلاكه أسلحة دمار شامل ودعم “الإرهاب”، ليبدو وكأن هناك قراراً بتصفية كل الزعماء “السنة” المشاكسين في المنطقة على إختلافهم، وذلك بهدف إخلاء الساحة أمام كل من إسرائيل وإيران وهكذا كان، كانت البداية مع سقوط صدام حسين في العراق ومن ثم إغتيال ياسر عرفات بالسم في مقره برام الله.

في لبنان ومع تزايد الضغوط على النظام السوري خصوصاً مع صدور القرار 1559 الذي يدعو الى إنسحاب القوات الأجنبية من لبنان وحصر السلاح بيد القوى الشرعية اللبنانية، لجأ هذا الأخير بدفع ودعم إيراني خبيث وقوي إلى التصعيد والمواجهة، وذلك بفرض التمديد لاميل لحود بالتهديد والوعيد رغماً عن المعارضة اللبنانية في محاولة لمحاصرة رفيق الحريري سياسياً بما يمثِّل من زعامة سنية قوية بلا منازع وزعامة وطنية معتدلة، وكرمز للإعمار والتواصل بين لبنان ومحيطه العربي والعالم، بعد أن اتهمه “محور الممانعة” بأنه أحد صنَّاع القرار 1559، فكان أن تم التمديد للحود على مضض، ليتكرر مشهد العام 1998 وينسحب الحريري من السلطة، في بيان شهير ومؤثر أتى على شكل وصية ونبوءة حين قال “أستودع الله هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب”. جاء هذا الانسحاب بعد محاولة إغتيال النائب والوزير مروان حمادة في الأول من تشرين الأول 2004، في محاولة لإرهاب المعارضة وإضعافها عبر قطع صلة الوصل ما بين رفيق الحريري ووليد جنبلاط، فجاء بيان الانسحاب من السلطة كرد على هذه المحاولة. تصاعد الصراع حتى كان يوم 14 شباط 2005 الذي كان من المفروض أن يكون يوماً للحب، فحوّلوه يوماً للموت والدمار، قتلوا رفيق الحريري – الرمز في محاولة لقتل لبنان ونحر أمله في التحرر ومواصلة مسيرة الاعمار والتنمية. قتلوا الحريري وفي ظنهم أن الأمر كان سيمر طبيعياً ليوم أو يومين كما مرَّ غيره الكثير من قبل، لكن ظنهم خاب وانفجر الغضب المكبوت في الصدور، أجّجه الحزن والجرح الذي أحس به كل لبناني شريف يومها، كذلك الخوف من مستقبل مجهول من دون رفيق الحريري، الذي كان يمثِّل للبعض حتى من معارضيه قبل مؤيديه، شبكة أمان وواحة سلام وطمأنينة تحمي الوطن. حدث الانفجار وكان صاعقه الغضب الصارخ والساطع لينقلب السحر على الساحر، فكانت ثورة الأرز أو إنتفاضة الاستقلال الثاني، وشعارها حرية، سيادة، إستقلال، ورمزها إستقلال 05.

يتبع…

إقرأ أيضاً:
– 14 شباط… “جريمة جارية” بحق لبنان، إغتيال “إنتفاضة الاستقلال”! (2)
14 شباط… “جريمة جارية” بحق لبنان، محاولات “إغتيال” المحكمة الدولية! (3)

شارك المقال